داهمتني في الفترة الأخيرة فكرة مؤلمة ظلت تطاردني حتى امتلكتني عقليًا ووجدانيًا، ولم تترك لي أدنى فرصة للهروب منها، هذه الفكرة هي محاولة تشويه المثقفين في الوطن العربي، بهدف تدميرهم كقوة أساسية من قوى الاندفاع الحضاري إلى التقدم والتطور ومواجهة التحديات الكثيرة التي يعيشها، وهذه المحاولة قديمة في وطننا العربي، بل وهي محاولة معروفة في الغرب نفسه. وبالنسبة للوطن العربي فإن في عقلي وقلبي معًا صورة أديب فنان مفكر نبيل هو عبد الله النديم الذي عاش في مصر في القرن الماضي، وكان شعلة من الوطنية والحماس والذكاء والفهم الصحيح لضرورات التطور في مصر والعالم العربي والإسلامي، وقد لقي هذا الأديب والمفكر المبدع ألوانًا من العذاب والاغتراب والتشويه لشخصيته وآرائه، وذلك بعد أن دخل الاستعمار الإنجليزي مصر سنة 1882، وقد اضطر «النديم» أن يبقى مختفيًا في القرى المصرية وسط الفلاحين تسع سنوات متواصلات، ثم تم القبض عليه وعفا عنه الخديوى توفيق لفترة قليلة، وانتهى به الأمر إلى الطرد من مصر والنفي إلى تركيا حيث مات هناك، وليس له الآن قبر معروف، وما أكثر النماذج الأخرى التي حاول الاستعمار تشويهها بشتى الأساليب والوسائل، وبعض المثقفين كانوا يتعرضون لهذا التشويه من الداخل، حيث يحاطون بضغوط تؤدى بهم إلى أمراض نفسية وعضوية مدمرة، ومن لم يستسلم للتشويه الداخلي فإنه يتعرض لتشويه خارجي شديد القسوة في ظروف حياته الاقتصادية والعائلية وما إلى ذلك. وهذا الذي يحدث عندنا له نماذج عديدة في الغرب، فمنذ أسابيع قليلة انتحرت الممثلة الأمريكية «جين سيبرج» بعد أن تولت أجهزة التشويه الموجهة إلى الأدباء والفنانين والمفكرين حصارها واضطهادها، و«جين» هذه هي بطلة فيلم (جان دارك، المأخوذ عن مسرحية برناردشو المعروفة «القديسة جان» والذي أخرجه المخرج الكبير - الأمريكي الجنسية والألماني الأصل - «أو توبير منجر ) سنة 1957، ولا أظن أن أحدًا من عشاق السينما الرفيعة ينسى هذا الدور العظيم، الذي كان أول أدوار «جين سيبرج»، ومضت «جين» تقطع طريقها نحو المجد الفني بعد دورها في «جان دارك»، ولكنها كانت فتاة بريئة وصادقة وموهوبة وصاحبة موقف، وسرعان ما ارتبطت، وهي المرأة البيضاء، بحركة تحرير الزنوج في أمريكا، فساندتها بكل قوة وشجاعة، مما أثار ضدها غضب تلك الأجهزة الشريرة الغريبة التي تقاوم بشراسة كل تقدم إنساني وكل خير يعود على البشر. وبدأوا يحاربونها في عملها الفني ويقفون في طريقها، وينشرون الأكاذيب حولها، وعندما (حملت) من زوجها قيل عنها أنها تحمل من أحد المجرمين السود التي كانت على علاقة غير شرعية به، وكتبوا عنها أنها امرأة بلا أخلاق، وأنها مجرد غانية تلعب بالرجال، ووصل بها الأمر من كثرة ما صدوا عليها أبواب العمل، ومن كثرة ما أثاروا حولها الشبهات والشائعات إلى حد أن طلبت اللجوء السياسي ذات يوم إلى الجزائر، وأرسلت بطلبها هذا إلى الرئيس بو مدين، ولا أدري لماذا لم تنفذ رغبتها في اللجوء للجزائر، أو أي بلد آخر تطمئن فيه وتأمن، ويبدو أن السبب الرئيسي هو أن التشويه في داخلها كان قد وصل إلى أعماقها حتى أصبح داء لا شفاء منه فانهارت أعصابها واضطربت نفسيتها، وظلت تهوي إلى الحضيض يومًا بعد يوم حتى قررت الانتحار بالحبوب المنومة في سيارتها قرب نهر السين. 1979* * ناقد مصري «1934 - 2008»