لا يستطيع الشيخ في أخريات أيامه أن يجد في قلب ولده من الحنان ما يجد في قلب ابنته الفتاة، فهي التي تمنحه يدها عكازا لشيخوخته وقلبها مستودعا لأسراره نعم إن الرجال قوامون على النساء كما يقول اللّٰه تعالى في كتابه العزيز، ولكن المرأة عماد الرجل وملاك أمره وسر حياته من صرخة الوضع إلى أنّة النزع، لا يستطيع الأب أن يحمل بين جائحتيه لطفله الصغير عواطف الأم، فهي التي تحيطه بعنايتها ورعايتها، وتظلله بجناح رحمتها وشفقتها، وتسكب قلبها في قلبه حتى يستحيلا إلى قلب واحد يخفق خفوقا واحدا ويشعر بشعور واحد، وهي التي تسهر عليه ليلها وتكلؤه نهارها وتحتمل جميع آلام الحياة وأرزاءها في سبيله غير شاكية ولا متبرمة بل تزداد شغفا به وإيثارا له وضنا بحياته بمقدار ما تبذل من الجهود في سبيل تربيته، ولو شئت أن أقول لقلت إن سر الحياة الإنسانية وينبوع وجودها وكوكبها الأعلى الذي تنبعث منه جميع أشعتها يحصر في كلمة واحدة «قلب الأم» ولا يستطيع الرجل أن يكون رجلا تام الرجولة حتى يجد إلى جانبه زوجة تبعث في نفسه روح الشهامة والهمة، وتغرس في قلبه كبرياء المسؤولية وعظمتها، وحسب المرء أن يعلم أنه سيد، وأن له رعية كبيرة أو صغيرة تضع ثقتها فيه، وتستظل بظل حمايته ورعايته، وتعتمد في شؤون حياتها عليه حتى يشعر بحاجته إلى استكمال جميع صفات السيد ومزاياه في نفسه، فلا يزال يعالج ذلك ويأخذ نفسه به حتى يتم له، وما نصح الرجل بالجد في عمله والاستقامة في شؤون حياته وسلوك الجادة في سيره، ولا هداه إلى التدبير ومزاياه والاقتصاد وفوائده والسعي وثرائه، ولا دفع به في طريق المغامرة والمخاطرة والدأب والمثابرة مثل دموع الزوجة المنهالة ويدها الضارعة المبسوطة، ولا يستطيع الشيخ الفاني في أخريات أيامه أن يجد في قلب ولده الفتي من الحنان والعطف والحب والإيثار ما يجد من ذلك في قلب ابنته الفتاة، فهي التي تمنحه يدها عكازا لشيخوخته وقلبها مستودعا لأسراره وهواجس نفسه، وهي التي تسهر بجانب سرير مرضه ليلها كله تسمع أنفاسه وتصغي إلى أنّاته وتحرص الحرص كله على أن تفهم من رعشات يديه ونظرات عينيه حاجاته وأغراضه، فإذا نزل ستار الموت بينها وبينه كانت هي من دون أهله جميعا الوارثة الوحيدة التي تعد موته نكبة عظمى لا يهونها عليها ولا يخفف من لوعتها في نفسها أنه قد ترك من بعده ميراثا عظيما، وكثيرا ما سمع السامعون في بيت الميت قبل أن يجف تراب قبره أصوات أولاده يتجادلون ويشتجرون في الساعة التي يجتمع فيها بناته ونساؤه في حجراتهن نائحات باكيات. وجملة القول إن الحياة مسرات وأحزان، أما مسراتها فنحن مدينون بها للمرأة لأنها مصدرها وينبوعها الذي تتدفق منه، وأما أحزانها فالمرأة هي التي تتولى تحويلها إلى مسرات أو ترويحها عن نفوس أصحابها على الأقل، فنحن مدينون للمرأة بحياتنا كلها. 1927* * كاتب مصري «1876 - 1924»