يُروى أنه وفد على الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- رسول من بعض الأمصار في الليل، فلما وصل وقرع الباب خرج إليه الحراس، فقال لهم: «أخبروا أمير المؤمنين أن بالباب رسولاً من فلان عامله»، فأخبروا عمر وكان أراد أن ينام فقعد، وقال: «ائذنوا له»، فدخل الرسول فدعا عمر بشمعة غليظة وأوقد عليها ناراً، وأجلس الرسول، وسأل عمر عن حال أهل البلد ومن بها من المسلمين وأهل الذمة، وكيف حال أميرهم فيهم؟ وكيف الأسعار؟ وكيف أبناء المهاجرين والأنصار، وأبناء السبيل، والفقراء وهل أعطى الحقوق لأصحابها؟ وهل هنالك من اشتكاه؟ وهل هنالك مظلومون؟ فتحدث الرسول إلى عمر، وأبلغه بكل ما اطلع عليه من شأن تلك الولاية. وبعد ان انتهى عمر من أسئلته حول تلك الولاية وأميرها وناسها، قال الرسول مخاطباً إياه: «يا أمير المؤمنين كيف حالك في نفسك وبدنك؟ وكيف عيالك وجميع أهل بيتك؟»، فما كان من عمر بن عبدالعزيز إلا أن نفخ في الشمعة الغليظة فأطفأها، ونادى على غلامه: «علي بسراجي!». فأتى الغلام بشمعة لا تكاد تضيء، فقال عمر الرسول: «سل عما أحببت»، فسأله الرسول عن حاله، فأخبره عن حاله وأهل بيته، وتعجب الرسول للشمعة وإطفائه إياها، وقال:»يا أمير المؤمنين، رأيتك فعلت أمرًا ما رأيتك فعلت مثله!»، قال عمر: «وما هو؟»، فقال الرسول:»إطفاؤك الشمعة عند مسألتي إياك عن حالك وشأنك»، فأجاب عمر بن عبدالعزيز: «يا عبدالله! إن الشمعة التي رأيتني أطفأتها من مال الله ومال المسلمين، وكنت أسألك من حوائجهم وأمرهم، فكانت تلك الشمعة تقد بين يدي فيما يصلحهم وهي لهم، فلما صرت لشأني وأمر عيالي ونفسي أطفأت نار المسلمين، وأوقدت شمعتي التي هي خاصتي». قد يقول البعض أن هذه قصة من عهد مضى، ولم نعد نرى في زماننا هذا شيئاً من هذا القبيل، ولكن في الواقع أرى الكثير من النماذج المضيئة في مجال النزاهة والورع والخوف من الله عزوجل، ومن ذلك ما يروى عن الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- عندما التقى به أحد الأشخاص في حرم الجامعة وكان يطلب منه توقيعاً، فأخرج الشيخ ابن عثيمين القلم ثم أعاده إلى المكتب ورفض أن يوقع به، ولما سئل عن ذلك أجاب: «هذا قلم الجامعة!» ورفض أن يوقع به شيئاً شخصياً. ويروي الأستاذ محمود نصيف عن رئيسه م. خالد محمود الذي كان مديراً لمصنع دهانات في الثمانينات، أنه وبعد أن ركب الباص مع فريقه طلب من السائق التوقف وغادر مسرعاً إلى مكتبه، وبعد أن رجع سأله مرؤوسوه: «لماذا رجعت إلى المكتب؟ هل نسيت إطفاء أحد الأجهزة أم ماذا؟»، فأجابهم م. خالد: «لا، ولكنني نسيت أقلام الشركة في جيبي وأردت أن أعيدها لمكتبي قبل التحرك إلى البيت»، استعجب الناس من هذا الموقف وسألوه:»وما المشكلة في أن تأخذ الأقلام معك للمنزل؟»، فأجابهم: «هذه الأقلام هي ملك للشركة ولا أستعملها إلا فيما يخص أعمال الشركة، وأنا لديَّ أطفال صغار لا يفهمون ذلك، وقد يستعملون تلك الأقلام في ألعابهم، و أنا لا أحب أن أقابل ربي وأولادي استخدموا ما لا نملك في حياتنا». قد يتساءل البعض، هل من الممكن تطبيق هذه المبادىء في أيامنا هذه؟ في الواقع أن الجواب هو أنه لا بد من تطبيقها والالتزام بمعايير الأمانة والنزاهة لأنها مسؤولية أمام الله عزوجل قبل كل شيء. ولعل من النصائح المفيدة في هذا المجال الحرص الشديد على الالتزام بالأنظمة والتعليمات وتطبيق الحوكمة، ومن ناحية أخرى أعرف مديرين وموظفين يحرصون على العمل ساعات إضافية أو خارج أوقات الدوام وفي الإجازات دون مطالبة تعويض كنوع من تحليل رواتبهم ومستحقاتهم. ويبقى الإنسان شاهداً على نفسه، والسعيد والحكيم من حرص على أن لا يأكل ولا يطعم عائلته إلا من حلال، وحاسب نفسه قبل أن يحاسب في يوم الحساب. وأختم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ».