احتضن بيت الثقافة بحي التعاون أمسية ثقافية مميزة نظمها صالون نُبل الثقافي، وأدارها الكاتب الدكتور عبدالله العمري، حيث قدّم الباحث الدكتور علي النجعي ورقته الفكرية تحت عنوان: "التراث الثقافي غير المادي.. مقاربة أنثروبولوجية". في مستهل حديثه وجّه النجعي شكره إلى المنظمين والحضور، وأشاد بجهود الأستاذ منصور الزغيبي مدير الصالون، الذي وصفه بأنه أحد الفاعلين الحقيقيين في المشهد الثقافي، مؤكدًا أن تميز الصالون يعكس شخصية مديره وفكره وأخلاقه. انطلق النجعي في محاضرته موضحًا أن التراث الثقافي غير المادي لا يقف عند حدود "بقايا الماضي"، بل يمثل مرآة حيّة لهوية الإنسان وممارساته اليومية، يتحوّل فيها الفعل البسيط من ضرورة للبقاء إلى رمز للهوية ثم إلى هواية وصناعة ثقافية. وأكد أن الأنثروبولوجيا، بما لها من تداخل مع التاريخ وعلم الاجتماع والدراسات الثقافية وحتى علم النفس، تمثل مدخلًا لفهم الإنسان بوصفه الضلع الثالث في مثلث الفعل الوجودي مع الزمان والمكان. استحضر الباحث الجذور الإسلامية لهذا العلم، مشيرًا إلى جهود الرحالة والمؤرخين المسلمين مثل المسعودي وابن خلدون الذين سبقوا الأنثروبولوجيين المحدثين في ربط البيئة بالهوية الثقافية. فالمسعودي وصف عادات الشعوب وطرائق عيشها وتأثير الجغرافيا في تشكيل الهويّة، فيما ربط ابن خلدون بين الهواء وأخلاق البشر ومزاجهم الفني مخصصًا لذلك فصلًا في مقدمته. ورأى النجعي أن مثل هذه المقاربات تفتح الطريق لفهم أعمق للتراث كنتاج إنساني يتأثر بالبيئة ويعيد تشكيلها في الوقت ذاته. وتناول النجعي الفارق بين الدراسات الأنثروبولوجية التي نشأت في القرن التاسع عشر وتركز على دراسة الإنسان في شموليته عبر الملاحظة بالمشاركة والدراسة الحقلية، والدراسات الثقافية التي برزت في بريطانيا منتصف القرن العشرين كرد فعل على المناهج الأدبية الكلاسيكية، واهتمت بالثقافة الشعبية والإعلام وتحليل الخطابات. وأوضح أن الحقلين يتكاملان لفهم الإنسان عبر رموزه ونصوصه وممارساته اليومية، وأن دراسة التراث تظل مدخلًا أساسيًا لاستنطاق الإنسان وفهم دينامية العلاقة بين الفرد وبيئته ومجتمعه وتاريخه. ثم عرض النجعي عناصر التراث غير المادي كما صنفتها اتفاقية اليونسكو 2003، مبرزًا حضورها في المشهد السعودي من خلال ملفات مسجلة مثل الصقارة، القهوة العربية، المجلس، العرضة النجدية، المزمار، القط العسيري، النخلة، السدو، الخط العربي، البن الخولاني، حداء الإبل، الهريس، النقش على المعدن، والملفات الأحدث كالحنّاء والسمسمية والورد الطائفي. ورأى أن هذه الملفات ليست مجرد فولكلور للزينة، بل شواهد على عبقرية الإنسان في تكيّفه مع بيئته، وحفظه لذاكرته الجمعية، وقدرته على تحويل الضرورة إلى هوية ثم إلى ممارسة ثقافية حيّة. وتوقّف عند تجلّيات التراث في الأزياء والملابس، ولا سيما في البيئات الجبلية حيث تظهر العلاقة الوثيقة بين المناخ واللباس كما كشفت دراسات الدكتورة ليلى البسّام؛ فالأكمام الطويلة والهيئات المناسبة للبرد والوعورة مثال على ما تسميه الأنثروبولوجيا "التكيّف البيئي". وفي جازان يتبدّى أثر طرق التجارة في لباس "الميل" ذي اللمسة الهندية في الأقمشة والتطريز، شاهدًا على تبادل التأثيرات الثقافية. وانتقل إلى الحرف اليدوية، مستعينًا بقصة رمزية لأنطوان دو سانت إكزوبيري عن "أول من استعمل يده" للتأكيد على معنى اليد في تشكّل الحضارة. وتُعد حياكة السدو نموذجًا مكثّفًا: مهارة إنتاجية، ولغة رمزية، وطقسًا جماعيًا يرسّخ التضامن الاجتماعي على نحو يذكّر برؤية إميل دوركهايم للطقوس، وبمقاربات ليفي-شتراوس للثقافة شبكةً من الرموز. وتظهر في زخارف السدو دلالات الهوية والانتماء مثل المسجد والدلّة والوسوم والجمل وضروس الخيل. وتُفسَّر اختلافات ممارسة الحرف بين الصحراء والجبال بواقع الاستقرار والحركة: فبيت البادية المتحرك يلائم معه النسيج المحمول، بينما البيت الحجري الثابت في الجبال يُنتج فنون النقش على الجدران ك"القط العسيري" الذي يمكن النظر إليه بوصفه "سدو الجنوب". وللسدو أهازيجه التي تتغنّى بها النساء أثناء الحياكة؛ وهي ليست ترفًا بل ذاكرة جماعية حيّة، ووظيفة اجتماعية تحفّز العمل وتفتح فضاء للتعبير، بما يقرّبها من حقل الأنثروبولوجيا اللغوية. وتغدو الحياكة، بهذا المعنى، فضاءً اجتماعيًا وثقافيًا متكاملًا يجمع بين العمل اليدوي والرمز والذاكرة. وتوقّف عند "المعارف المرتبطة بالطبيعة والكون" بوصفها مجالًا محوريًا في تصنيف اليونسكو، موضحًا أن النُظم الزراعية ذروة علاقة الإنسان ببيئته. فالخبرات العملية حول التربة والمواسم والري والحصاد تمثل علمًا شعبيًا متوارثًا، يُكتسب بالمعايشة ضمن "منطقة ثقافية" يتقاسم أهلها القيم والمعارف. وقدّم مثال الورد الطائفي المسجّل مؤخرًا في اليونسكو؛ حيث تتوارث عائلات بأكملها عمليات التقطير واستخراج ماء الورد، وتتشكّل الهويّات المهنية والعائلية حول المعرفة الزراعية، على نحو يذكّر بمفهوم "الهابيتوس" عند بورديو. وأشار إلى تقاويم المزارعين ومواسم البذر عند أهل جازان، وإلى مواعيد صيفية لبذر الذرة والدخن والسمسم بين 19 مايو و12 يونيو، بما يعكس عقلانية محلية مجرّبة وليست خرافة. وفي مجال أشكال التعبير الشفاهية عرض لوظائف المثل الشعبي التعليمية والأخلاقية والحجاجية، مستشهدًا بنماذج سعودية تكثّف النقد الاجتماعي وتؤطر السلوك القيمي، ومن أمثال جازان قولهم: "أقعد بحناك يحنى"، بما يحثّ على معرفة الذات وتجنّب ادّعاء ما يفوق القدرة. كما توقف عند جمع الباحثين للأمثال مثل عبدالكريم الجهيمان ومحمد العبودي والدكتور عبدالعزيز السدحان، بوصفه جهدًا يحفظ ذاكرة القول الشعبي. وفي الفنون الأدائية رأى أن الرقص الشعبي لغة جسد تعبيرية نابعة من البيئة، تتأثر بعوامل جغرافية واجتماعية واقتصادية، وترتبط بالمهن والأعمال والطقوس والمناسبات والوقائع الكبرى من حرب وهجرة ومواسم حصاد. وتتنوّع ألوان الأداء في المملكة بين العرضة بأنواعها والدحة والرزفة والمزمار، وفنونٍ ارتبطت بالبحر كالينبعاوي والنهمة واليامال، وأخرى اتخذت للسمر والترفيه مثل السامري والمجرور والمسحباني والسيف والخطوة الجنوبية. وترتبط هذه الفنون بالنصوص الشعرية والأهازيج وبالآلات الموسيقية كالربابة والسمسمية والمرواس والطبل، وقد شهد بعضها انتقالًا من مجلس القول الشفهي إلى فضاء المسرحة والعرض العام كما في "شعر القلطة". وختم النجعي بالتأكيد أن دراسة التراث أنثروبولوجيًا لا تتوقف عند الجمع والحصر، فمع تقدير جهود باحثين سعوديين كالدكتور سعد الصويان والدكتور عبدالله العمري والدكتور عبدالرحمن الشقير، إلا أن الميدان يحتاج إلى مؤسسات بحثية تُعمّق التحليل الثقافي والأنثروبولوجي وتحوّل الذاكرة الشعبية إلى معرفة علمية ممنهجة. فالتراث غير المادي ليس مجرد هوية تُصان فحسب، بل هو أيضًا هواية وسوق وصناعة ثقافية، يمارسها الناس بشغف، وتعيد إنتاج معنى الانتماء في مواجهة الذوبان الثقافي وتحديات العولمة. وبذلك أسدل الستار على أمسية ثرية أعادت الاعتبار للإنسان بوصفه منبع كل إبداع حضاري، وللتراث بوصفه لغة الحاضر وذاكرة المستقبل. الزميل عبدالله الحسني مداخلاً ويبدو د. فهد العتيبي ومنصور الزغيبي