الخريطة الفلكية تتحول من فضول عابر إلى هوس للفتيات القانون السعودي يضع خطوطًا حمراء أمام مروّجي التنجيم بينما يصنّفها العلماء ك"علم زائف" ويفنّدها المختصون بالدليل والبرهان، ما زالت الأبراج والخريطة الفلكية تستهوي قلوب ملايين البشر، ومنهم الفتيات اللواتي يتداولنها يوميا عبر مقاطع "تيك توك" و"سناب شات". بالنسبة للبعض، هي مجرد تسلية عابرة، وبالنسبة لآخرين، وسيلة لتنظيم العاطفة أو تهدئة القلق. لكن خلف هذا الانجذاب تكمن دوافع أعمق: رغبة في تفسير الذات، بحث عن هوية وسط ضغوط اجتماعية وأسرية، وهروب من قلق المستقبل الذي يثقل كاهل جيل شاب يعيش في زمن سريع التغيّر. في غرف الفتيات وعلى هواتفهن، تتحول الخريطة الفلكية إلى صديقة صامتة تُجيب عن أسئلة لا يجرؤن على طرحها بصوت مرتفع: هل سينجح ارتباطي؟ لماذا أشعر بعدم الانسجام؟ ما الذي ينتظرني غدا؟ هذه الموضة الرقمية لم تعد مجرد فضول، بل تحولت إلى لغة خفية تترجم مشاعر القلق والحاجة للطمأنينة، حتى وإن اصطدمت بفتوى شرعية صريحة بتحريمها، ولوائح نظامية صارمة تجرّم الترويج لها كخدمة مدفوعة، واقتصاد رقمي ناشئ يبيع الوهم بثمن مرتفع. علم مرفوض بدراسات دامغة رغم الشعبية الجارفة التي تحظى بها الأبراج في العالم، إلا أن المجتمع العلمي ظلّ يتعامل معها بصرامة، واضعا إياها في خانة "العلوم الزائفة" التي لا تستند إلى منهج تجريبي ولا إلى قاعدة بيانات يمكن اختبارها أو تكرار نتائجها. وعلى مدى عقود، تعاقبت الدراسات والاختبارات لتفنيد مزاعم المنجّمين، لتأتي النتائج دائمًا محبطة لمؤيديها. إحدى أبرز هذه المحاولات نُشرت عام 1985 في مجلة Nature العلمية المرموقة، حين أجرى الفيزيائي الأميركي شون كارلسون تجربة صارمة شارك فيها 28 منجّما محترفا. طُلب منهم مطابقة خرائط ميلاد أشخاص مع ملفات تحليل نفسي أعدّها مختصون، على أساس أن موقع الكواكب يفترض أن يكشف السمات الشخصية. لكن النتيجة جاءت صادمة: أداء المنجّمين لم يكن أفضل من التخمين العشوائي، مما ألقى بظلال ثقيلة على مصداقية هذا المجال بأكمله. ولم يكن ذلك استثناء؛ ففي عام 2008، كرر العالم الهندي جاينت نارليكار التجربة بطريقة مختلفة. طلب من عدد من المنجمين التمييز بين أطفال موهوبين وأقرانهم العاديين اعتمادا على الخرائط الفلكية فقط. المفاجأة أن نسبة النجاح لم تتجاوز 46 %، أي أقل من النسبة المتوقعة بالصدفة (50 %). هذه النتائج لم تترك مجالا للشك بأن الأبراج لا تملك أي قوة تنبؤية. الأمر لم يتوقف هنا، إذ جُمعت نتائج أكثر من 40 دراسة وتجربة مختلفة شملت آلاف الأشخاص عبر دول وثقافات متعددة. النتيجة النهائية كانت متطابقة تقريبا: لا وجود لعلاقة علمية مثبتة بين مواقع النجوم والكواكب وبين سمات الشخصية أو مسار الحياة. كل ما يتم تداوله حول "حظك اليوم" أو "توافق الأبراج" يظل في نظر العلم مجرد وهم منظم، يقدّم تفسيرات سهلة لكنها لا تصمد أمام منهجية البحث التجريبي. بين الوهم والحاجة النفسية ورغم أن الدراسات العلمية أثبتت مرارا زيف الادعاءات الفلكية، إلا أن الإقبال على الأبراج والخريطة الفلكية يواصل التصاعد، لا سيما بين الفتيات. هنا لا يكون الأمر مجرد إيمان بعلم مرفوض، بل انعكاسا لحاجة داخلية معقّدة تتجاوز حدود المنطق. الاختصاصية النفسية ريم السعدي ترى أن هذا التعلّق يمثل في جوهره استجابة عاطفية قبل أن يكون قناعة عقلية. وتقول: "كثير من الفتيات، خصوصا في مرحلة المراهقة وبدايات الشباب، يعشن حالة من القلق والارتباك العاطفي والبحث عن هوية مستقرة. في هذه المرحلة، تصبح الخريطة الفلكية أشبه بنظام وهمي يقدّم لهن تفسيرا سريعا لما يشعرن به، ويمنحهن انطباعا بأن هناك قوة ما تنظّم حياتهن وتمنحها معنى". وتضيف أن الأبراج تعمل بالنسبة لهن مثل مسكّن نفسي، يقدّم لحظة من الراحة والاطمئنان حتى لو لم يغيّر الواقع. "حتى الفتاة التي تعلم أن الأبراج لا أساس لها من الصحة قد تجد نفسها تعود إليها عند مواجهة الخوف أو التردد. الأمر هنا ليس تصديقا مطلقا، بل هو ما نطلق عليه في علم النفس 'الإيمان العاطفي'، أي الميل إلى تصديق ما يخفّف القلق ولو كان وهما". وتوضح السعدي أن هذا الميل يبرز بشكل أكبر في المراحل الانتقالية: عند تغيير بيئة دراسية، أو دخول سوق العمل، أو خوض تجربة عاطفية جديدة. في تلك اللحظات المليئة بالأسئلة واللايقين، يصبح من السهل أن تجد الفتاة في الأبراج إجابة جاهزة تعفيها من الحيرة، حتى وإن كانت تلك الإجابة سطحية أو متناقضة. كما تشير إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي عمّقت هذا الارتباط، إذ تحوّلت مقاطع الفيديو القصيرة إلى جلسات نفسية سريعة، تطرح كلمات مؤثرة بلغة شخصية موجهة مباشرة للمشاهد. هذا الطابع "المفصّل" يجعل الفتيات أكثر قابلية للتأثر، وكأن الرسالة موجهة إليهن وحدهن. "عندما لا نجد تفسيرا منطقيا لما نشعر به، نميل إلى تصديق أي تفسير يقدم لنا الوضوح، حتى لو كان زائفا"، وتختم بقولها: "الأبراج لا تملك قوة علمية، لكنها تملك قوة نفسية، لأنها تقدّم وهما منظما يلبّي حاجة الإنسان القديمة لفهم نفسه ومستقبله. المشكلة أنها تظل مجرد وهم، ومن يعتاد عليها قد يجد نفسه معتمدا على نظام لا يقوده إلا إلى المزيد من الارتباك. طالعي قادني لقرار خاطئ ليان العلي (23 عاما)، طالبة جامعية، تروي قصتها بمرارة وهي تسترجع تفاصيل قرار غيّر مسار حياتها العاطفية. تقول: "قبل عامين تقدّم لخطبتي شاب من عائلة معروفة، كان يتمتع بصفات جيدة ويملك مستقبلا واعدا. لكنني كنت مترددة، وشعرت أنني بحاجة لطمأنة إضافية. وقتها كنت أتابع إحدى الصفحات الشهيرة على إنستغرام، وتواصلت مع صاحبتها لأخذ قراءة لخريطتي الفلكية. أخبرتها القارئة أن برجها لا يتوافق مع برج الشاب، وأن العلاقة ستكون مليئة بالصعوبات والفشل. "كان كلامها حاسما لدرجة أنني شعرت أن مستقبلي واضح أمامي. انسحبت من الخطبة رغم محاولات عائلتي لإقناعي بالعكس"، تضيف ليان. بعد أشهر، علمت أن الشاب ارتبط بفتاة أخرى، وأن حياته الزوجية مستقرة. عندها فقط استوعبت أنها تركت فرصة حقيقية لأنها صدّقت وهما. "ندمي الأكبر أنني سمحت للخريطة أن تتحكم بقراري المصيري. لم تكن مجرد تسلية وقتها، بل أصبحت دليلا يقودني... للأسف نحو الطريق الخاطئ. طمأنينة وقت الجائحة على النقيض من ذلك، تصف أمل الناهض (28 عاما)، موظفة في قطاع خاص، تجربتها مع الأبراج بطريقة أكثر اعتدالا. تقول: "خلال فترة جائحة كورونا كنت أعاني قلقا متواصلا. أخبار الإصابات، فقدان الروتين اليومي، والشعور بعد اليقين جعلتني أبحث عن أي وسيلة تخفف عني. بدأت أتابع مقاطع قصيرة عن الخريطة الفلكية على تيك توك ويوتيوب، ووجدت فيها نوعا من الطمأنينة". لم تكن أمل تصدّق التوقعات كحقائق مطلقة، لكنها كانت تجد في تلك الكلمات الموجّهة بلغة شخصية دعما نفسيا. "كنت أشعر أن الرسالة مكتوبة لي وحدي: اليوم سيحمل لك خبرا سعيدا، أو ستشعرين بطاقة إيجابية. هذه الجمل الصغيرة أعطتني أملا مؤقتا في أصعب الأيام"، تشرح أمل. ومع ذلك، تعترف أن التجربة لم تغيّر واقعها بشكل فعلي: "هي مجرد راحة لحظية، مثل كوب قهوة ينعشك للحظة، لكنه لا يغيّر من ضغط الحياة. إدمان التوافقات العاطفية أما سارة السعيد (17 عاما)، طالبة في المرحلة الثانوية، فتبدو قصتها أكثر خطورة. إذ تحوّل فضولها الأولي تجاه الأبراج إلى ما يشبه " إدمانا معرفيا ". تقول: "لم أعد أبدأ صداقة أو علاقة عاطفية إلا بعد التأكد من توافق برجي مع برج الطرف الآخر. إذا لم يكن هناك توافق، أشعر أن العلاقة محكوم عليها بالفشل". مع مرور الوقت، أصبح اعتماد سارة على الأبراج يقيد قراراتها اليومية: "حتى اختيار زميلة لمشروع مدرسي أو صديقة جديدة بات مرتبطا بما تقوله الخريطة. صرت أشعر أن برجي هو مرشدي، وأنني لا أستطيع اتخاذ قرار دون الرجوع إليه". نص صريح لا يقبل التأويل حين نقترب من موقف الشريعة الإسلامية تجاه علم الأبراج والتنجيم، لا نجد منطقة رمادية أو مجالا للاجتهاد، بل نصوصا صريحة وحاسمة. الفتوى الرسمية في السعودية جاءت واضحة على لسان اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، إذ أكدت أن: "علم الأبراج من التنجيم الذي حرّمه الله ورسوله، لأنه ادعاء لعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فلا يجوز تصديق المنجّمين ولا سؤالهم ولا نشر كلامهم ولو على سبيل التسلية، ومن صدّقهم بما يقولون فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" (فتوى اللجنة الدائمة رقم 2131، هذه الفتوى ليست رأيا فرديا أو اجتهادا معاصرا، بل امتداد لموقف متوارث في الفقه الإسلامي، قائم على مبدأ أساسي: علم الغيب مختص بالله وحده. وبالتالي فإن أي محاولة لربط مصائر البشر بحركة الكواكب أو مواقع النجوم يُعدّ تعديا على ما استأثر الله به لنفسه. ويشرح العلماء أن التنجيم يتجاوز مجرد التسلية حين يُقدَّم كوسيلة لاتخاذ قرارات أو استشراف المستقبل، إذ يتحول إلى نوع من الشرك العملي الذي يضع إرادة الكون في غير موضعها. حتى التبرير بأنه "فضول" أو "ترفيه" لم يُجزه العلماء، بل شددوا على أن مجرد القراءة أو النشر يدخل في دائرة المحظور. وعلى المستوى الاجتماعي، يخلق هذا النص الحاسم خطا فاصلا بين المباح والمحظور، ليضع الفتيات أمام مفارقة لافتة: من جهة، انجذاب عاطفي وفضول إنساني نحو الأبراج، ومن جهة أخرى، تحذير ديني شديد يصل إلى حد التكفير لمن يصدّق المنجّمين. هذه المفارقة تعمّق الجدل حول الظاهرة، وتجعلها أكثر حساسية من أي محتوى آخر، لأنها لا تمسّ الترفيه فقط، بل تمسّ العقيدة نفسها. اقتصاد رقمي يبيع الوهم في موازاة الجدل العلمي والشرعي، برزت سوق ناشئة تستثمر في هوس الفتيات بالخريطة الفلكية. لم يعد الأمر مقتصرا على متابعة مقاطع ترفيهية، بل تحوّل إلى نشاط اقتصادي متكامل، تقوده حسابات مؤثرات على منصات مثل تيك توك وإنستغرام. هؤلاء المؤثرات يقدمن جلسات قراءة مدفوعة تُسوّق بوصفها " استشارات شخصية"، تصل تكلفتها إلى ما بين 200 و500 ريال للجلسة الواحدة، تُجرى غالبا عبر واتساب أو زووم. لكن الجلسات ليست سوى البداية؛ فهناك منتجات تُباع إلى جانبها، تحمل مسميات جذابة مثل "كريستالات الطاقة" أو "بخور التوازن الروحي" أو إكسسوارات بأسماء الأبراج. تُقدَّم هذه السلع في حملات دعائية عاطفية تُخاطب الفتيات مباشرة، وتَعِدهن بجلب الحظ أو دفع الطاقة السلبية، وهو ما يجعلها مغرية في ظل بحث كثيرات عن الأمان النفسي. وترى خلود الشمراني-كاتبة اقتصادية-أن هذا النشاط يُمثل اقتصادا موازيا غير منظم، يتغذى على فضول الفتيات ورغبتهن في الطمأنينة. ورغم أن حجمه لدينا قد يبدو محدودا مقارنة بالأسواق الكبرى، إلا أن خطورته تكمن في طبيعته التضليلية. فالمستهلكة هنا لا تشتري منتجا ملموسا له فائدة مؤكدة، بل تشتري وهما نفسيا معبّأ بلغة تسويقية مؤثرة. وتحذر الشمراني أيضا من أن هذه السوق تُدار خارج الأطر النظامية. فوفق لوائح هيئة الإعلام المرئي والمسموع (GCAM)، أي إعلان أو خدمة مدفوعة عبر مؤثر يلزمه ترخيص رسمي، وأي مخالفة قد تصل غرامتها إلى نصف مليون ريال. ومع ذلك، لا تزال كثير من هذه الجلسات تُقدَّم من خارج السعودية أو عبر حسابات شخصية غير مرخصة، ما يجعل الفتيات أكثر عرضة للاستغلال. ضوابط ترسم الخطوط الحمراء في المملكة، لا يُترك هذا المجال دون ضوابط. فهيئة الإعلام المرئي والمسموع (GCAM) وضعت خلال السنوات الأخيرة لوائح صارمة للتحكم في سوق الإعلانات الرقمية، خصوصا مع تصاعد دور المؤثرين وتحول المنصات الاجتماعية إلى واجهات تجارية كبرى. من أبرز هذه اللوائح: إلزام المؤثرين بالحصول على ترخيص رسمي قبل تقديم أي إعلان أو خدمة مدفوعة، بالإضافة إلى اشتراطات دقيقة تنظم شكل الإعلان ومضمونه، بما يضمن الشفافية وحماية المستهلك. ضمن هذا السياق، تصبح جلسات قراءة الأبراج أو الترويج للخريطة الفلكية أكثر حساسية؛ فهي لا تنطوي فقط على نشاط تجاري غير مرخّص، بل غالبا ما تحمل مضامين يمكن أن تُصنّف على أنها تضليلية، لارتباطها بادعاء كشف الغيب أو تقديم وعود علاجية ونفسية بلا أساس علمي. من تسلية عابرة الى مساءلة قانونية المحامية نسرين العنقري توضّح أن هذه الممارسات قد تقع تحت طائلة القانون من جهتين: الأولى، مخالفة نظامية لعدم وجود ترخيص من الهيئة، والثانية، مخالفة تضليل المستهلك إذا تضمّنت وعودا غير واقعية أو خداعا للجمهور. وتضيف: "الإعلان عن جلسات الأبراج دون ترخيص يعد مخالفة صريحة، وإذا تضمّن وعودا بكشف الغيب أو العلاج، فإنه يدخل ضمن نطاق التضليل المجرّم قانونا، وعقوباته قد تصل إلى غرامات بمئات الآلاف من الريالات، وربما الإيقاف عن ممارسة النشاط الإعلاني تماما". ولأن غالبية هذه الأنشطة تُمارس عبر حسابات شخصية أو من خارج المملكة، فإن الرقابة عليها ليست سهلة دائما، ما يجعل الفتيات الشابات الحلقة الأضعف في المعادلة، إذ ينجذبن إلى المحتوى دون إدراك لحدوده القانونية أو تبعاته النظامية. وهنا تتضح المفارقة: ما يُسوّق على أنه تسلية بريئة قد يضع صاحبته تحت مساءلة صارمة، ويحوّل مجرد متابعة أو إعلان بسيط إلى ملف قانوني كامل.