منذ أن رفع الإنسان رأسه إلى السماء، وهو يتساءل: ماذا يخبّئ الغد؟ من كهنة القدماء إلى خرائط الأبراج، ومن فناجين القهوة إلى تحليلات "الطاقة"، ظلّ الغيب سلعةً ثمينة في سوق الوهم. وكلّما اشتدّ عطش الناس إلى الأماني، ازدهرت تجارة التنجيم والتأويل، وتكاثرت الوجوه. فللرجاء وسطاء، يحيلون الحلم إلى مشهد استعراضي، ويُلبسون التمنّي قناع اليقين المُفبرك، ويعيدون رسم الحكاية على مقاس التوقّع، وتفصيل الرجاء على قياس المأمول. تحت هذا الستار المخمليّ المزيّف، تتكرّر العروض وتُعاد اللعبة مع كل عام جديد، أو موسم انتخابي، أو أزمة عامة: تنبؤات بانتصارات كاسحة، وكوارث وشيكة، وزلزال قادم، وبركان مدمّر، وغرق يهدّد بلداً. كلمات منمّقة تُلقى بنبرة الحكيم، لكنها مسطورة بحبر الاحتمال، وصياغة تُوهم باليقين، وإن خذلها الواقع. رجلٌ يتحدّث عن "هالة سوداء تحيط بك"، وأخرى ترى مستقبلك في خطوط كفّك، وثالث يربط حزنك بتراجع كوكب المشتري واقتراب زُحل، ورابع يقيس حظك من حركة القمر، وزواجك قادم، ومريضك يُشفى، وفريقٌك يفوز، ومولودٌ مُرتقب، ورزقٌ في الطريق. وكلما ظننا أن العرض انتهى، عاد مجدداً بوجه أكثر حداثة: برامج فضائية، منصات تواصل، مشاهد درامية ونبرة توحي بأن الغيب صار علماً، والمجهول أصبح قابلاً للشرح. كل ما يُقال هي نغمة محفوظة في لحن قديم، تُعزف على أوتار الأمل، وتُغلّف الحيرة بالبخور، وتُسوّق الحلم على هيئة حقيقة. مشهدٌ تعود جذوره إلى عصور الكهنة والعرافين، واليوم، يتجدّد الدور بأدوات عصرية وواجهات إعلامية براقة. ومن منصّات البث المباشر، تغيّرت الواجهات، لكن التجارة بقيت: طمأنينة تُباع، ووعي يُنتزع. هذه الشعوذة والأباطيل -بطقوسها وأوهامها- تحولت إلى ظاهرةً عابرة للقارات، وجدت في القنوات منصّات، وفي وسائل التواصل مدرّجات، تصب علينا من كل جهة بخرافات مغلّفة بلمعان الجاذبية. لكن ما إن يُطوى التصفيق، حتى يُكشف المستور. وكم من قناع تهاوى عند أول امتحان، وكم من هالة تبخّرت عندما كشفها الضوء. يتقدّم بعضهم بهيئة "العارف"، يهمس بالغيب، ويُلمّح إلى الأرواح، ويُبهر الجموع بوعود لا تُراجع. لكن سرعان ما يتعرّى الوهم: برهان لم يقع، "كرامة" مكشوفة الحيلة، وخطابٌ مُعلّب تغذّيه بيانات تقنية مسروقة أو حِيَل خفيّة. وإذا ما احتُكم إلى العقل، أو خضع أحدهم لاختبارٍ جاد، انكمش الزيف، وارتبك صاحبه، لتتبدّى الحقيقة جليّة: لا وحي، ولا حلم، وما هو إلا عرضٌ متقن يتغذّى على جاهزية التصديق. أما في عالمنا العربي، فالوهم يجد له جمهوراً مأخوذاً، ومسرحاً جاهزاً، وضجيجاً يُغذّيه التصديق. الأبراج تتقاطع مع الأقدار، والمعرفة تُختزل في الإيحاء، والتفسير يُستبدل بالتنجيم. الوجوه تتبدّل، والطقوس تتكرّر: وعود هائمة، وتنبؤات رخوة، وكلمات مطّاطة تُروَّج كأنها وحيٌ معرفي. تُغلف الخرافة بلغة الإلهام، وتُساق على أنها بصيرة. هوس متهافت، وسوقٌ تُعرض فيه الأكاذيب في هيئة يقين، ويُسوّق فيه العبث كأنه كشفٌ من الغيب. وفي هذا المسرح المموَّه، كلما خاب التنبؤ.. زادت شهرة صاحبه. وما ذاك إلا لإتقانه التسلّل إلى عقول عطشى؛ يُغلّف الوهم بهيئة رجاء، ويتغذّى على الفراغ والفضول، ناسجًا خداعه لعقول مُهَيّأة لتصديق ما يُقال بشغف، مدفوعة بحاجتها لأجوبة تُرضيها ولو كانت زائفة. ومن هنا، تتبدّى الحاجة إلى الرجوع لأهل الذكر والعلم والمعرفة، كلّما التبس الطريق واضطربت الأصوات؛ فهم أهل البصيرة، ويدركون فرق التعبير المشروع للرؤى عن مسالك الابتداع، ويفصلون بين نور الهداية وضباب الخرافة. وإن إدراك هذه الفروق ليس حكراً على خاصّة القوم، بل هو مما يُبنى بالوعي، وتُدركه العقول السليمة. ورغم الإجراءات الحازمة التي تتخذها الجهات المختصة، والملاحقات المتواصلة للمتاجرين بالأوهام -صونا للعقول، وحمايةً للوعي العام- لا يزال الوهم يجد من يُروّج له، ويؤثر الحكاية على الحقيقة. فالعلم والبصيرة وحدهما ما يحفظان الوعي، ويصونان من خداع المظاهر. وإذا ما تسلّل الوهم في هيئة وعي، أصبحت التوعية لازمة، والمساءلة درعًا، وقطع الطريق على المضلّلين ضرورةً لا تحتمل التأجيل.