في تاريخ الأمم لحظات تصبح الأعمار فيها رموزًا والأرقام إشارات أبعد من معناها العددي؛ وحين بلغ الأمير محمد بن سلمان الأربعين لم يكن الأمر خبرًا عابرًا في دفتر الأيام وإنما حدثٌ تتوقف عنده الذاكرة الوطنية، وتلتفت نحوه أنظار العالم، أربعون عامًا ليست كثيرة في عمر الزمن لكنها في مسيرته بدت كأنها قرون مضغوطة في إرادة رجل واحد حمل مشروعًا كاملًا على كتفيه، وأطلقه إلى المستقبل بسرعة لا تعرف التردد. فمنذ بواكير شبابه ظهر سمو ولي العهد مختلفًا لم يكن مجرد وريث لماضٍ كبير، وإنما كان مؤسسًا لمستقبل أكبر، إذ دخل الساحة محاطًا بتحديات جسام، فحوّلها إلى مشاريع، ورسم من خلالها رؤية طموحة لم تُعِد صياغة المملكة فحسب بل أعادت رسم علاقتها بالعالم، ومنذ اللحظة الأولى بدا أن هذه الشخصية تحمل طاقة تغيير نادرة لا تقف عند حدود الممكن بقدر ما تدفع بالخيال ذاته ليصبح واقعًا، والأربعون التي قد تبدو في حياة الآخرين مجرد رقم تحولت في حياته إلى معيار يُقاس به تسارع التحولات، ففي أقل من عقد تبدلت صورة المملكة أمام نفسها وأمام العالم من الاقتصاد إلى الثقافة ومن الطاقة إلى الرقمنة، ومن حماية التراث إلى استكشاف الفضاء، ليمتد حضور ولي العهد في كل اتجاه لا تكاد تمر مبادرة كبرى إلا وتجد أثرًا سعوديًا فيها رسمه بقرار جريء أو مشروع عابر للمألوف. وقدرة الأمير لم تكن محصورة في حجم المشاريع وحدها، وإنما في فلسفة الإدارة التي تبناها فهو قائد يعرف أن النهضة لا تتحقق بقرارات فوقية ولكن بشراكة مجتمعية تُعيد تعريف العلاقة بين الدولة ومواطنيها، لذلك حرّك المجتمع من داخله وفتح الأبواب وأطلق الطاقات وأعاد صياغة القيم في إطار يتسع للتغيير ويحتفظ بالثوابت، وصدقًا لقد كان الإصلاح عنده أشمل من قوانين أو أنظمة، وأقرب إلى كونه مشروع حياة يطال تفاصيل الناس كما يطال مؤسسات الدولة، وفي الخارج كان الحضور أكثر وضوحًا، حيث قاد سموه سياسة تستند إلى الواقعية من دون أن تفقد الجرأة، وجعل المملكة قوة إقليمية مركزية وفاعلًا أساسيًا في قضايا العالم، لم يعد موقعها مرتبطًا فقط بكونها منتجًا للنفط وإنما بكونها قوة مؤثرة في الاقتصاد العالمي ومركزًا للسياسة الدولية وشريكًا رئيسيًا في الأمن والاستقرار. ولعل هذه المسيرة تجعل من الأربعين مرحلة مختلفة فهي ليست خاتمة فصل بكل تأكيد لكنها بداية كتاب جديد، ومرحلة تتعانق فيها حكمة التجربة مع اندفاع الشباب وتلتقي فيها الخبرة بالجرأة ليولد أسلوب قيادة يجمع بين عناصر قلّ أن تجتمع في رجل واحد، وهنا يكمن سر محمد بن سلمان أنه يضغط الزمن في مشروع، ويجعل المستقبل حاضرًا قبل أوانه، وفي العادة يلتهم الزمن القادة، لكننا نرى أمامنا قائدًا يلتهم الزمن نفسه يختصره في قرارات سريعة، ويعيد تشكيله في مشاريع كبرى، ومن يتأمل سيرته حتى الأربعين يدرك أن ما جرى حتى الآن ليس إلا افتتاحية لعصر سعودي جديد تتقاطع فيه الأحلام مع الحقائق، وتتحول فيه الطموحات إلى وقائع ملموسة. إن بلوغ الأربعين عند ولي العهد ليس مجرد لحظة شخصية، إنه حدث وطني يقول إن المملكة دخلت مرحلة اكتمال في رؤيتها ونضج في مسيرتها، واستعداد لأفق أوسع في مستقبلها، نعم ما تحقق حتى الآن يكفي لملء مجلدات، وما ينتظر أن يتحقق يفتح الطريق لزمن طويل من الإنجازات، إذن هذه ليست نهاية عمر وإنما بداية جيل، وعنوان مرحلة ورمز لنهضة، ومع الأمير محمد بن سلمان تصبح الأعمار أكثر من سنوات، وتصبح السنوات أكثر من أيام ويصبح الحاضر مقدمة لمستقبل لا يعرف الحدود.