الذرية كسائر النّعم إنما تُرى ثمرتها المأمولة باتخاذ الأسباب المشروعة والمعهودة لذلك، فكما يقلُّ انتفاعُ الإنسانِ بالمالِ إذا رُزِقه وأهمل صيانته والنظر فيه، ويقلُّ انتفاعه بالعلم إذا حصّله ولم يتعاهده ولم يعمل به، كذلك يقلُّ انتفاعه بالذريّة إذا لم يسلك الطريق الملائمة في تربيتها.. لله علينا نعمٌ جليلةٌ إنْ عُدَّت لم يمكن إحصاؤها، ومن جلائل النِّعمِ أن يُنعِمَ الله تعالى على عبدِه بالذُّريةِ بناتٍ أو أبناءٍ أو كلا الجنسين، فالذّريةُ حياةٌ ثانيةٌ تُمنحُ للوالدينِ، ويُرجى بوجودها بقاءُ الذِّكرِ، وامتدادُ الإسهام في عمارة الأرضِ ونفعِ الأمّة، ومن الواجب على الوالدين النظرة إلى الذرية على أنها منحةٌ إلهيّةٌ، لا على أنها شيءٌ حانَ وقتُهُ وتهيأتْ أسبابُه فجاء بطبيعة الحال، فكم من شيءٍ حانَ وقتُه ولم تجرِ به المقاديرُ، وكم سببٍ بُذلَ فلم يُكتَبْ له أن تترتّب عليه آثاره، فالواهب هو اللهُ تعالى، واستصحاب هذا يُعينُ على النظرة الإيجابيّة إلى النعم، فالعطيّةُ تعظُمُ بعظمة المُعطي، كما يُعينُ على استدامة النعمة وزيادتِها؛ فمن اعترف بأنها من الله تعالى فهو جديرٌ بأن يشكرها عليها، وشكرُ النعمةِ سببٌ لزيادتِها، كما قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)، ونعمةُ الذريّة تنطوي على تشريفٍ وتكليفٍ، فهي تيجانٌ على الرؤوس يتجمَّل بها الموهوبُ له، ولي مع نعمة الذريّة وقفات: الأولى: للذريّة حقٌّ كبيرٌ في العناية والتنشئة اللائقةِ، والرعاية النفسيّة والمادية والعلميةِ، ومن فضلِ الله تعالى وحسن توفيقه أن هيّأ لنا ظروف ذلك في دولتنا المباركة المملكة العربية السعوديّة؛ فجهودُ الدولةِ متضافرةٌ على تهيئة ذلك لنا، بل والإلزام بكل ما من شأنِه حفظُ حقوقِ الطفلِ وتنشئته تنشئةً تكفل له الكرامةِ، وتفتحُ له آفاقَ المستقبل، وبقي على الوالدينِ بذل الحقوق الخاصّة بهما، وأولُ حقوقِ الذريّة عليهما الحفاوةُ بمقدمِها إلى هذا العالمِ بلا تمييزٍ في ذلك، وبعضُ الناسِ يَحرمُ البناتِ من هذا الحقِّ، فيستقبلها ببرودٍ وتشاؤمٍ، ويكون هذا أول حلقةٍ من سلسلةٍ التمييزِ والتفضيلِ بين الذُّرية، وهذا خطأٌ جسيمٌ؛ فمن حقِّ البنتِ على أبيهَا أن يستقبلَ الإشراقةَ الأولى لوجهِها بالبِشرِ والحفاوةِ والأملِ في أن يكونَ لها شأنٌ عظيمٌ، وأن يتجنّبَ استقبالَها بشيءٍ من الهاجسِ الجاهليِّ المتجسّد في كراهتها والاستحياءِ من ولادتِها، وأن يعلمَ أنّها منحةٌ عظيمةٌ، وقد نصَّ اللهُ تعالى بأنّها هبةٌ منه، وبدأ بها قبلَ الأبناء فقال تعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)، وعن بعضِ السَّلفِ أنه استنبطَ من هذه الآيةِ أنَّ مِنْ يُمْنِ المرأة أن تلِدَ الأُنثى قبلَ الذَّكرِ، لأنَّ اللهَ بدأ بالإناثِ، وقد عُلم من سيرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه إعزازُهم لبناتهم. الثانية: من الجدير بمن له ذريّةٌ أن يجتهدَ في تأمينِ مستقبلها ماديّاً، وهذا حقٌّ مكفولٌ شرعاً؛ ولذلك لم يجزْ له الوصيّةُ بأكثر من ثلث مالِه، ولهذا لما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاصٍ رضي الله تعالى عنه أن الثلث هو السقف الأعلى قال له: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ» متفق عليه، ويغيب على كثيرٍ من النّاسِ أن حق الذرية كما يتعلق بتأمين الاستقرار المادي يتعلق بتأمين الاستقرار النفسي والكرامة الاجتماعيّة، فعلى كلٍّ من الوالدين أن يكونَ متحفّظاً في تصرفاتِه حتى لا ينجرفَ إلى إشكاليَّاتٍ تسبب الحرج النفسيَّ والاجتماعيَّ لذريتِه، وأن لا يتهوّر بارتكابِ ما يُهدّدُ حياتَه أو صحتَه؛ لما يترتّب على ذلك من فقدان ذريتِه للظهير الذي تعتزُّ به، وهذا من بركاتِ الذرية فكم من إنسانٍ كاد أن ينهوي في هوّةِ مهلكةٍ فحجزه عن ذلك الخوف على ذريته، كما ذكروا أن بعضهم أرادَ أن يخرج مع الخوارجِ فتعلقت به بناتُه وبكين، فجلسَ وقال: لَقَدْ زَادَ الْحَيَاةَ إِلَيَّ حُبًّا بَنَاتِي إِنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ مَخَافَةَ أَنْ يَذُقْنَ الْبُؤْسَ بَعْدِي وَأَنْ يَشْرَبْنَ رَنْقًا بَعْدَ صَافِ وأنْ يَعْرَيْنَ إِنْ كُسِيَ الْجَوَارِي فَتَنْبُو الْعَيْنُ عَنْ كَرَمٍ عِجَافِ الثالثة: الذرية كسائر النّعم إنما تُرى ثمرتها المأمولة باتخاذ الأسباب المشروعة والمعهودة لذلك، فكما يقلُّ انتفاعُ الإنسانِ بالمالِ إذا رُزِقه وأهمل صيانته والنظر فيه، ويقلُّ انتفاعه بالعلم إذا حصّله ولم يتعاهده ولم يعمل به، كذلك يقلُّ انتفاعه بالذريّة إذا لم يسلك الطريق الملائمة في تربيتها، فالمعتادُ الغالب أنَّ تمام الفائدة المرجوّة من نعمةِ الذريةِ إنما يكون بتحَمُّل المسؤولية في التربيةِ والتوجيه، وتمهيد السُّبل نحو المستقبلِ، ولا ينبغي للعاقل أن يفرِّطَ في ذلك أملاً في أن تنخرق العادةُ بصلاح من أُسيئت تربيتُه، ونجاحِ من أُهمل تكوينُه، واستقامةِ من لم تُهذَّبْ أخلاقُه، فذرية الإنسانِ أغلى من أن يجازف بها هذه المجازفةَ، والتكلفة المبذولة في تربيتها وتكوينها تعقبها -إن شاء الله- راحةٌ وقرَّةُ عينٍ ورفعةُ شأنٍ، والراحةُ التي يختارها المتكاسل عن تربية ذريته تعقبها -غالباً- حسرةٌ وندامةٌ.