كئيبة وموحشة تبدو لك الدنيا. أشبه ما تكون بساحة معركة لا تنتهي فصولها.. أحراش غابة غامضة لا تعرف من أين تأتيك الضربة الغادرة فيها. ضغوط وهموم وقلق متصاعد لا يهدأ. وأنت كبحار وحيد في دوامة عاصفة تصارع الموج والرياح والغمام الأسود. ترقب بقلق رصيدك المتآكل والتزاماتك المتكاثرة وديونك المتراكمة، تتأمل صغارك من حولك يلهون ضاحكين وأنت تداري هم مستقبلهم الذي لا تعرف كيف سيكون وهم احتياجاتهم التي لا تعرف من أين ستؤمنها. وظيفتك ذات الراتب المحدود ليست مريحة كذلك، خلافاتك الصغيرة مع مديرك تراكمت لتصبح حملاً نفسياً يرهق عقلك المكدود وهاجس المرض والعجز عن العمل وحده كاف لإصابتك بأرق مزمن تجاه مستقبل صغارك. متعك المبهجة تتضاءل، تفقد لذتها ونشوتها الواحدة تلو الأخرى مما يجعلك تفقد حرصك عليها وعلى ممارستها بعد أن تحولت إلى عبء إضافي هي الأخرى. سؤال كبير يتشكل في مخيلتك: ما الذي يجري؟ هل هذه هي الدنيا التي أعرف؟ شعور الوحدة في مواجهة العالم هذا مر به زمرة مباركة من البشر قبلك، كانوا وحيدين بمعنى الكلمة في مواجهة قوى عظمى هي كل سكان الأرض. مرت بهم لحظات ضعف وتردد كتلك التي تمر بك الآن لكنهم اهتدوا إلى علاج خاص لتلك الحالة، علاج منحهم القدرة على الاستمرار والمقاومة بل والتلذذ بالحياة وتقلباتها من جديد. تلك الزمرة المباركة هي سيدنا محمد علية الصلاة والسلام وصحابته وكان سلاحهم في مواجهة الدنيا هو نوع خاص جداً من العبادة. عبادة فرضها الله عليهم في أول الإسلام لتقوي عزيمتهم وترفع همتهم ثم خففها عنهم لتصبح مندوبة. لكنها ظلت عبادة فريدة لا ينالها ولا يقوم بمقامها إلا الخاصة من الخلق، عبادة الخلوات والانفراد بالله والاتصال به والتلذذ بوصاله وقت خلود الناس إلى فرشهم ووسائدهم. حيث يدنو الله إلى السماء الدنيا فيجيب الدعاء ويرفع البلاء ويؤمن الخوف ويفرج الهم ويجبر القلب الكسير بلا «واسطة» ولا شفاعة. تلك هي عبادة قيام الليل، ولأنها عظيمة الفضل كبيرة البركة فإن الله يتمنن على عباده المفرطين مثلي ومثلك فيمنحنا فرصة لتذوق حلاوتها ومزاحمة عباده المقربين في فضلها، يدعوني ويدعوك في العشر الأواخر من رمضان لنقترب قليلاً ولنجرب ذلك الشيء البديع المسمّى مناجاة وإخبات وتضرع. فلأجلك تحوّلت صلاة الليل من السر إلى الجهر ومن التستر بالظلام والانفراد، إلى جماعة في المساجد بإمام وتلاوة ووتر ودعاء قنوت، دعوة إلهية وعرض خاص لا يفوت لتجرب الدواء الحقيقي لكل همومك ولترفع شكواك وقلقك وأحزانك في رسائل سريعة لمن بيده مقادير الأكوان فتسمع الوعد الصادق بالإجابة والكشف والأمان والحياة الطيبة. مهما ازدحمت بك طرقات الشوارع، وغيوم الأفكار لا تجعلها تحجب عنك باب المسجد الموارب وصوت المصلين الخاشع.. فقط ادنُ ياصديقي.. ألقِ كل أكدار الدنيا خلفك.. واسجد واقترب!