تبدو الثقافة من أكثر المفاهيم انزلاقًا من معناها إلى ظلّها؛ إذ كلُّ شيءٍ اليوم يُوصف بأنه "ثقافة"، فثمّة ثقافة الحوار، وثقافة الاستهلاك، وثقافة السفر، إلى آخره. لكنّ الثقافة ليست سؤالًا واحدًا، بل سؤالان متجاوران في المظهر متباينان في المخبر.. "ما الثقافة؟" سؤالٌ يبحث عن الماهية، بينما "لماذا الثقافة؟" سؤالٌ استراتيجي يبحث عن الغاية. فالأول يُعرِّف، والثاني يوجّه، والأول يُجيب بالعقل، والثاني يُجيب بالبصيرة وبُعد النظر. وحين نسأل ما الثقافة؟ فنحن نتحرّى طبيعتها ومكوّناتها ووظيفتها في تشكيل الإنسان والمجتمع، إنها المخزون الجمعي من المفاهيم والعادات والتأويلات التي تُملي على الإنسان كيف يرى العالم. فهو سؤالٌ ينتمي إلى الحقل المعرفي، لأنّه يشتغل على المعنى الداخلي للثقافة: كيف تتكوّن وتُنقل؟ وكيف تتحوّل إلى نسقٍ رمزيٍّ يحكم إدراك الإنسان وسلوكه؟ أمّا لماذا الثقافة؟ فهو السؤال الذي يُحرّك الفعل بعد الفهم، ويحوّل المعرفة إلى رؤيةٍ مستقبلية، إذ يُعنى بالموقع الذي تتّخذه الثقافة في حركة المجتمع، وما إذا كانت زينة لغوية تُزيّن الخطاب العام أم بنية تخطيطٍ تُحدّد شكل المجتمع، ونمط التنمية، ووجهة الإنسان. وقبل أن نُجيب عن لماذا الثقافة، لا بدّ أن نسأل بوضوحٍ أولًا: ماذا نعني بالثقافة؟ إنّ الثقافة لا تبدو مجرّد معرفةٍ موسوعية ولا حُزمةً من العادات المتوارثة بقدر ما هي النظام العميق الذي يُشكّل إدراك الإنسان للعالم، ويُحدّد استجاباته. أليست منطق خفي يحكم تفاعل الإنسان مع القيم ومع الآخرين ومع ذاته؟ فالثقافة ليست ما ندرسه في الكتب، وإنّما ما يُعيد ترتيب الكتب في عقولنا. وكأنّها جذر يمدّ الفكر بالحياة وليست مجرد أوراق تُجمِّل المشهد. وقد أحسن تايلور حين عرّف الثقافة بذلك "الكلّ المركّب الذي يشمل المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والعُرف، وكل ما يكتسبه الإنسان بوصفه عضوًا في المجتمع". ومن وجهة نظري فهذا التعريف رغم اتّساعه إلا أنّه لا يلتقط روح الثقافة تمامًا؛ لأنّها ليست مجموعًا حسابيًّا لهذه العناصر، بل إنّها النسق الذي يُؤوِّلها ويمنحها معنًى؛ حيث إنّ الثقافة ليست ما نفعله، وإنّما الطريقة التي نفهم بها ما نفعله؛ كون الثقافة في جوهرها ترتقي إلى مغزى المعنى، ومن دونها يغدو الإنسان آلةً تعمل بلا غاية، وعقلًا متشظّيًا تلتقطه الشاشات وتُعيد تشكيلَه كيفما بدا. تأمّل!.. ترى الثقافة هي ما يُبقي على الإنسان إنسانًا في خضمّ التقنية، وما يمنحه قدرة على التمييز بين التقدّم والانكفاء، وبين التجديد والانمحاء. إنّها خطّ الدفاع الأخير ضدّ العدمية، وحائط الصدّ أمام الذوبان في بحر العولمة الثقافية الذي يجرف الهوية ويبتلع الخصوصيات كما تجرف وتبتلع المُدن ملامح الريف. ولذلك، فالسؤال "لماذا الثقافة؟" ليس أكاديميًا بقدر ما هو وجوديّ؛ لأنّنا كلّما فقدنا ثقافتنا فقدنا إحداثياتنا في الخريطة الإنسانية، وحين نسأل لماذا الثقافة؟ فنحن لا نطلب تعريفًا، بل نبحث عن الاتجاه. فهو ما يُحدد كيف نرى الجمال، وكيف نُمارس الأخلاق، وكيف نُقيِّم الحقيقة؛ حيث العبور من خلاله يجعلنا نفهم أنفسنا ونفهم الآخر دون أن نذوب فيه. وعليه، فالثقافة ليست إرثًا جامدًا، بل فعلٌ مستمرّ من الوعي والتجديد، فلا معنى لثقافةٍ لا تُسائل ماهيتها، ولا معنى لفكرٍ يكتفي بتكرار ما كان؛ إذ إنّ كلَّ جيلٍ مُطالبٌ بإعادة قراءة ثقافته من الداخل على نحوِ: ما الذي يُمكن الحفاظ عليه؟ وما الذي ينبغي تجاوزه؟ وكأنّ الثقافة لا تُقاس بما نحتفظ به، بل بما نُعيد ترميمه وبناءه.. ذاك أنّها وببساطة تنعكس على واقعنا بكل تفاصيله، وما لم نُمارس هذا الوعي النقدي فسنبقى نحمل ثقافةً تُشبه صندوقًا موروثًا محروزًا أكثر ممّا تُشبه عقلًا حيًّا منفتحًا وحاضرًا. وهكذا، فمجتمع لا يُعلي من قيمة الثقافة إنّما يُنشئ أجيالًا تُجيد التلقّي ولا تُجيد الفهم، إذ من الطبيعي أنّه حين تُقصى الثقافة تتصدّر التفاهة وحدها في ثوب ثقافة. فالثقافة لا تعبر من خلال السذاجة بل تطمسها، وهي لا تُنافس العلم بل تُعطيه غايته الأخلاقية، وهي لا تُهمّش التقنية بل تحتويها، ذاك أنّها الضمير الجمعي الذي يجعل من الاستحقاق لا الامتلاك مقياسًا للتقدّم. إذن فإنّ السؤال "ما ولماذا الثقافة؟" ليس ازدواجًا لغويًا، بل إنّه ثنائية ضرورية لفهم الإنسان ذاته؛ ف«ما» تُحدّد الشكل، و«لماذا» تُحدّد الغاية. وهذا يعني أنّ الثقافة ليست تراكمًا في الذاكرة، بل مشروعٌ في الوعي. فسؤال الثقافة إنّما هو وعيٌ بالمعرفة في خدمة الغاية، وانتقالٌ من الإدراك إلى الاختيار، وعبور من الفهم إلى القرار. ولهذا فكلّ مشروعٍ نهضوي يبدأ من "ما"، لكنّه لا يكتمل إلا ب"لماذا"، فحين نُعرِّف ما الثقافة نُدرك من نحن، وحين نُعرِّف لماذا الثقافة نُقرّر مَن نريد أن نكون. د. عبدالرؤوف الخوفي