شاهدتُ قبل عدة أيام فيلمًا بعنوان "1BR" من إخراج ديفيد مارمور 2019؛ حيث إنّه من النوع الذي تطغى عليه الرمزيّة والغموض والرعب، وربما لا يستهوي بعضهم كثيرًا؛ حيث يدور الفيلم حول فتاة تُقرر الخروج عن جلباب والدها ومُجتمعها، لكنّها تقع في شتّى المصاعب. والحقيقة أنّه هو ما حملني على الوقوف عند نظريات الأنساق في هذا المقال: كلُّ حضارة ليست إلا نبض ثقافتها، حيث تبدو كقلبٍ متوارٍ لكنّه يعمل على ضخِّ المعاني في شرايين الواقع. فالأنساق تُمثّل البنية العميقة التي تحكم ما يُنتَج في الثقافة من أفعال وتصوّرات دون أن يكون الأفراد واعين بها بالضرورة. فهي لا تقتصر على ما يُقال أو يُفعل، بل تمتدُّ إلى "كيف" و"لماذا" يُقال ويُفعل؟ وقد حاول الفكر الإنساني عبر عدّة نظريات أن يُفكّك هذا الكيان الهائل الذي يُدعى "الثقافة" إلى أنساقٍ وإلى أنظمة وإلى ما يُشبه الخرائط.. خرائط تحاول أن تُمسك بما لا يُمسك، وأن تُعرِّف ربّما ما لا يُعرَّف. فكانت البنيوية أُولى المحاولات الكبرى لتجريد الثقافة من عشوائيتها، فنظرت إلى الأسطورة واللغة والعُرف ككلمات في جملة كُبرى، إذ لم تكن طقوس الزواج أو أساطير الزمن الغابر سوى تراكيب لغوية في نسقٍ أعمقَ خفيٍّ يسكن الوعي الجمعي. لقد علّمتنا البِنيوية أنّ خلف كلِّ سطح صاخب ثمة صمت منظّم، وثمة قواعد تحكم اللاوعي الجمعي. لكنّها بالمقابل جرّدت الإنسان من إرادته، ونسيت أنّ الأنساق قد تُكسر، وأنّ العلامات ليست سجونًا أبدية. أمّا الوظيفيون فقد نظروا إلى الثقافة بعين النفعي، فكلُّ عادة أو تقليد أو نسق يؤدي وظيفة. فالطقس الديني يُعزز الانتماء، والقرابة تُحدد الأولويات والحقوق، واللباس يعكس منظومة ضبط اجتماعي. فهي قد أعادت للثقافة بُعدها الحي، ورأتها ككائن يخدم الحياة لا نموذجًا شكليًّا فحسب. لكنّها من جهة أخرى سقطت في التسطيح، إذ لا شيء يُفسر تعقيد الحياة بمنطق المنفعة فقط. وفي قلب نظريات الأنساق، جاء كليفورد غيرتز برمزيّته ليقرر مركزية المعنى وجاذبيته. وأنّ كلَّ نسق ثقافي ليس إلا تأويلاً. فالصيد ليس صيدًا فقط، بل عرض رُجولة، والثوبُ ليس زينة، بل إشهار هُوية. ولعلّ الجيد في هذا المنظور أنه جعل من الثقافة نصًا مفتوحًا، ودعوة للفهم لا للإدانة. لكنّه من زاوية أخرى انطلق بعربة النسبية بلا كوابح، فإذا كانت كلُّ ممارسة "رمزًا"، فمن يحق له مُمارسة النقد الثقافي؟ ثم جاء بيير بورديو حاملاً مطرقته النقدية. فلم يكن ليرى في الثقافة ترفًا، بل ميدان صراع بين النُخب التي تفرض رموزها بوصفها معيارًا للذوق، وتحتكر رأس المال الرمزي، بينما تُقصى ثقافةُ الهامش بوصفها ابتذالًا. ممّا يعني أنَّ الأنساق ليست بريئة، وأنّ الثقافة يُمكن أن تُستخدم قوّةً ناعمةً للهيمنة. غير أنّ خطر تصوّراته يكمن في التعميم، وكأنّ كلَّ إبداع مؤامرة، وكأنّ كُلّ نصٍّ ليس سوى لعبة مصالح. في حين تبرز هشاشة الأنساق مع فوكو ورفاقه (ما بعد البنيويين) عندما استهواهم الهدم. إذ لا أنساق ثابتة، وإنّما خطابات تتغيّر وتتنازع. وخلف كلِّ حقيقة ثقافية ثمّة سُلطةٌ ما تحرسها. إذ لا براءة في اللغة ولا في التاريخ. لقد نبَّهوا بجُرأةٍ إلى أنّ ما يبدو طبيعيًا ليس سوى أمرًا مُصطنعًا في الغالب، وأنّ السؤال لا يقلُّ أهميةً عن الجواب. لكنّهم أدخلوا الفكر في دوامةٍ لا تنتهي من الشك؛ حيث لا قرار ولا يقين ولا مخرج. وعلى أيّة حال، يُمكن القول إنّ هذه النظرياتِ كُلًّا بطريقتها قد حاولتْ أن تفكّ شيفرات الوجود الإنساني حين يتجلّى في لغة أو أسطورة أو طقس أو موقف. ولكنّها رغم دِقتها أو اتساقها أو جُرأتها تبقى مجرّد إضاءات خافتة في ممر طويل معتم يتطلّبُ إنسانًا يمرُّ بنفسه متأمّلًا ومتسائلًا وربما متمرّدًا. وفي نهاية الأمر، فإنّ الخطر لا يكمن في حُضور الأنساق، بل في غفلتنا عنها. وما بين من يُسفِّهها ومن يتعبّدها يظلُّ السؤال قائمًا: هل نعيش ثقافتنا بحرية؟ أم أنّ الأنساق - مهما بدت بريئة - تسكننا أكثر ممّا نسكنها؟ ولعلَّ أعظم ما تُعلّمنا إياه هذه النظريات ليس فقط كيف نُفكك الثقافة؟ بل كيف نزنها بميزان قيمنا الإسلامية، لا بوصفها قيدًا، بل باعتبارها اختيارًا واعيًا يُعبّر عن إنسان يدعو إلى غربلة الأنساق وتنقيتها مما يُناقض الفطرة السويّة والأخلاق الحميدة. فربما لا تمنحنا هذه النظريات مفاتيح الحكمة والحقيقة، لكنّها تُنير لنا زوايا كنّا نمرّ بها دون انتباه. وربما في عالم تذوب فيه المعاني بسرعة الضوء، نحتاج أحيانًا إلى أن نعود إلى هذه الخرائط، لا لنتمسّك بها، بل لنتعلّم كيف يُفكّر العالم من حولنا؟ وما الذي تتميز به خرائطنا عن غيرنا؟