إبراهيم الصقير -رحمه الله-، من الشخصيات التي أحببتها منذ أن رأيتها لأول مرة قبل 20 عاماً أو أكثر، وكما قال عليه الصلاة والسلام: "الأرواح جند مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" -رواه البخاري-، فروحي وروحه ائتلفتا منذ اللحظات الأولى، ومن قرب من المؤرخ الرواية والباحث إبراهيم بن راشد الصقير اكتشف ما وجدته أنا منذ لقياه، كان عالي الخلق، سليم القلب، طيب الطوية، هادئ الطبع، لين المعشر، مهذب في كلامه، يتحدث بهدوء، تستطيع أن تحصي كلماته وجمله، سهل التعامل، محبوب من أصدقائه ومعارفه، تشتاق إليه النفوس وتحبه وتألفه، لا يمكن أن تسمع كلمة نابية منه، بل إن تكلم تحدث بما يفيد أو ظل ساكتاً، وإذا سئل أجاب بما لديه من علم، فهو كريم غاية الكرم في نشر الفوائد التاريخية والأدبية بين الباحثين، بل إن لديه مخزونا جيدا عن تاريخ مدينة الزبير التي ولد وعاش بها صباه وشبابه، فهو من مؤرخي هذه المدينة العريقة في ماضيها، حافلة بالأحداث والوقائع التاريخية المنجبة للعلماء والأدباء وذوي الوجاهة والمكانة الاجتماعية، الذين كان لهم دور فعال في العراق ومنطقة الخليج العربي، زرته في منزله بحي الروضة بمدينة الرياض وأخذت عنه بعض الفوائد، تكرم وتفضل علي وزارني في منزلي بحي الفاخرية وأهديته كتاب (إفادة الأنام) للمؤرخ عبدالرحمن بن عبدالله التويجري، الذي تعقب وصحح واستدرك على المؤرخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام في كتابه (علماء نجد خلال ستة قرون) -الطبعة الأولى- وسر بهذا الكتيب اللطيف الذي لا يخلو من الفوائد والمباحث المفيدة والتحقيقات التي يهتم بها الباحث أو طالب العلم. صالونات أدبية كانت مجالس إبراهيم الصقير -رحمه الله- علم وأدب وتاريخ، يزور الصالونات الأدبية، خاصةً جلسة المؤرخ حمد الجاسر الذي كان من المداومين لها ضحى يوم الخميس، فكان يفيد ويستفيد من المؤرخ الجاسر، وكان لا ينقطع من زيارة المكتبات العامة مثل مكتبة الملك فهد، واعتقد أن عبدالرزاق القشعمي لم يجري لقاء معه، بدليل أن الكتاب الذي أصدره بعنوان (تجربتي مع التاريخ الشفوي) سود فيه 406 شخصية تمت مقابلتهم والحديث عن ذكرياتهم فلم يقابله، وأذكر أنني قرأت له لقاء قبل سنوات بمجلة الشرق التي كانت تصدر بالمنطقة الشرقية، وليت القشعمي قابله لأفاض شخصيتنا عن علم عزير عن تاريخ الزبير وعن محطاته في الحياة. حُسن الخلق وتحدث د. راشد العساكر في مقاله له رثائية في صحيفة «الرياض» عن إبراهيم الصقير -رحمه الله- قائلاً: فقدت أسرة الباحثين والمحققين إبراهيم بن راشد الصقير عن عمر قارب الثمانين، تميز الصقير بالأدب وحُسن الخلق مع بذل الفائدة العلمية لكثير من الباحثين والدارسين بكرم وأريحية، بل وخدمتهم في كثير مما يطلبونه، وعرف عنه مشاركاته الاجتماعية والعلمية بحضوره الندوات واللقاءات المختلفة، بدأت معرفتي به في دارة الملك عبدالعزيز عام 1413ه عندما كنت أتردد عليها، ثم توثقت بالاجتماع معه مراراً عندما كنا نتردد على العلامة حمد الجاسر في خميسياته المشهورة، ورغم كبر سنه في آخر أيامه، فإن ذلك لم يمنعه من التحصيل والمطالبة والقراءة والبحث والافادة وتتبع الجديد وهكذا تكون الهمم، وآخر لقاء جمعني به في مكتبة العبيكان وهو ينقب عن الكتب، خاصةً الإصدارات التاريخية، ودار النقاش عن بعض البحوث وشكرته على جهده الذي حققه في إخراجه لتاريخ إبراهيم الضويان في طبعته الثانية وغيرها من الأمور التاريخية. كتب نادرة ويكمل د. العساكر: كان إبراهيم الصقير -رحمه الله- يتحف العلامة حمد الجاسر ببعض المقالات القديمة وصور بعض الكتب النادرة ولعل منها رحلة داود السعدي 1288ه بعنوان (طريق الحج من الأحساء إلى الرياض فالحجاز)، والتي نشرت قديماً في مجلة لغة العرب العراقية، ثم أعاد نشرها الجاسر، وللصقير إلمام ومعرفة بتاريخ الجزيرة خاصةً نجد والزبير ومعرفة بعلمائها، وقد اشترك مع الدكتور قاسم السامرائي في تحقيق كتاب (مساجد الزبير) للشيخ محمد العسافي، كما أن له كتاباً بعنوان (الإفصاح عن مختار الصحاح) وهو من أوائل اصداراته، بأمثال هؤلاء ستبقى ذاكرة التاريخ به شاهدة وألسنة المحبين له راجية وداعية بالرحمة والمغفرة -انتهى كلامه-. الزبير والمجمعة وعن مراحل حياة إبراهيم الصقير -رحمه الله- وميلاده ونشأته، ففي موقع الألوكة سيرة شخصيتنا كتبها د. عبدالكريم السمك، نقتطف ما يهمنا من معالم في حياته العلمية، وأذكر أنه أهداني كتابه (تخريج أحاديث كتاب مختار الصحاح)، وهو أول كتاب يصدر له، نعود إلى سطور من حياته، فهو المؤرخ الباحث الإخباري إبراهيم بن راشد بن إبراهيم بن عبدالله الصقير من مواليد 1339ه بمدينة الزبير، وأسرة الصقير من مدينة المجمعة، انتقل جده الثاني عبدالله الصقير -رحمه الله- من المجمعة إلى الزبير 1287ه، حيث أسّس عملاً تجارياً، واستدعى ابنه حمد من المجمعة ليعمل في هذه التجارة، ثم استدعى حمد أخاه إبراهيم إلى الزبير -جد شخصيتنا المباشر- ومعه أسرته عام 1302ه، وكان عمر والد شخصيتنا راشد عامان، بعدما كبر والد شخصيتنا تزوج وأنجب إبراهيم ومحمد. مدرسة النجاة وتعلم إبراهيم الصقير -رحمه الله- في مدرسة النجاة التي أسسها العلامة محمد الشنقيطي -رحمه الله- التي تعد من كبريات المدراس في الزبير، وكان يدرس فيها أساتذة ومشايخ على درجة علمية قوية في علوم الشريعة واللغة العربية والتاريخ، وفي مسك الدفاتر وفي الأدب العربي، ومدرسة النجاة هي بمثابة الجامعة آنذاك بمدينة الزبير ومنذ تأسيسها خرجت الكثير من أبناء الزبير، وكل الكتب التي صنفت في تاريخ الزبير أفردت لها فصل، بل ألفت حولها كتب. وذكر عبدالعزيز الذكير في مقال له في صحيفة «الرياض» عن مدرسة النجاة أن ما تميزت به أنها قررت في المنهج المدرسي علم يسمى مسك الدفاتر، وهو علم في الحسابات المالية الدقيقة، ولهذا يقول الذكير في مقالته: إن هذا العلم جعل التلميذ المتخرج من مدرسة النجاة قادراً على مزاولة التجارة؛ لأن التجارة تعتمد على الحسابات المالية. والجدير بالذكر أن هذه المدرسة قامت على تبرعات أهالي مدينة الزبير، لذلك استمرت تؤدي دورها التعليمي والتربوي والثقافي في المنطقة ككل في العراق والخليج العربي. مفاتيح وبوابة واصل إبراهيم الصقير -رحمه الله- الدراسة في هذه المدرسة وتخرج منها، وكانت هذه المدرسة بالنسبة له مفاتيح وبوابة لعلوم سوف يحبها ويقرأ فيها ويكون مرجعاً ومصدراً للباحثين والقرّاء، وكانت بيئة شخصيتنا تحب التاريخ والأدب والشعر، حيث إن والد شخصيتنا محب للقراءة، فهو يقرأ الكتب التاريخية والمجلات التي ترد إلى الزبير، وبهذا تأثر بوالده، ولعله كذلك تأثر ببعض أساتذة مدرسة النجاة، وكم من معلم وأستاذ قد تأثر به تلاميذه تأثراً إيجابياً غيّر مسار حياتهم إلى الأفضل والأحسن وأصبحوا أعضاء في المجتمع، ذوي تأثير نافع، بل كانوا قادة، لهذا يقول العلامة عباس العقاد -رحمه الله- أن الشخص المبدع يحتاج إلى أمرين هما التشجيع عموماً والموهبة التي هي كامنة في الشخص، لهذا حينما قرأ مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده موضوع كتاب العقاد وهو في المرحلة الابتدائية قال: «ما أحرى هذا أن يكون كاتباً بعد». وأصبحت مقالة عبده في عقلية هذا الفتى، وفجرت عبقرية كانت غائبة، ولو عاش الشيخ محمد عبده لرأى وشاهد فراسته في العقاد قد تحققت، لكنه رحل مبكراً -رحمه الله-، وكانت وفاته 1323ه، وكان عمر العقاد آنذاك في السابعة عشرة وهو لم يؤلف إلاّ في سن الحادية والعشرين، وكان قد ألّف كتابه الخلاصة اليومية، وهو في هذه السن، وهو أول مؤلف، والمعذرة للقارئ انني استطردت عن حياة العقاد لأن الكلام يجر بعضه بعضاً. أوفى بوعده تميز إبراهيم الصقير -رحمه الله- بالرواية التاريخية، لهذا استعان د. قاسم السامرائي عندما حقق الرسالة التي ألفها محمد بن حمد العسافي -رحمه الله- وهي عن مساجد الزبير بشخصيتنا، يقول د. السامرائي في مقدمته وتحقيقه لهذه الرسالة المفيدة: وحدث في شهر رجب 1420ه أن زرت الرياض بعد اشتراكي في دورة تدريبية عقدت في مركز جمعة الماجد بدبي، فالتقيت مع إبراهيم بن راشد الصقير في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وهو زبيري الولادة والنشأة والدراسة، فسألته عن مخطوطة: «مساجد الزبير» وهل هناك من كتب عن مساجد الزبير؟، فقال: سأكتب لك ما أعرف عنها، فبر بوعده وكتب حول ستة وعشرين مسجداً، فأثرت إلحاقها مستقلة عن ما كتب الشيخ محمد بن حمد العسافي؛ لأنها تكمل بعض المعلومات التي لا نجدها عند العسافي وتضيف إلى معلومات المخطوطة معلومات جديدة، ثم قال أيضاً عن شخصيتنا: وقد زادت مساهمة الصقير في أهمية هذه المخطوطة أنه استطاع بما عايشه وعاصره في بلدة الزبير والبصرة وبغداد، أن يضيف جملة من المعلومات المهمة التي تكمل مرة ما جاء عند العسافي وتضيف مرة أخرى معلومات لم ترد عنده، مثل التعليقات المفيدة التي تفضل فكتبها في حواشي النسخة التي طلبت منه مراجعتها، فأدرجتها كاملة في الحواشي منسوبة إليه، وهنا أيضا تكمن أهمية مساهمة إبراهيم الصقير في إثراء هذه الرسالة المختصرة. يضيف السامرائي قائلاً: وشكري الغامر لإبراهيم بن راشد الصقير على تفضله بالكتابة حول مساجد الزبير، وما أضاف من شروح وتعليقات مفيدة على ما ورد في مخطوطة العسافي، فقد دلت كتابته على علم جم واطلاع واسع بها، لذلك لم أشأ أن أغمط حق علمه، تأدية للأمانة العلمية وتحقيقاً للوفاء الذي أكنه له، فله الشكر الجميل والثناء العاطر. -انتهى كلامه-. إفصاح وتحقيق وألّف إبراهيم الصقير -رحمه الله- بعض المؤلفات، وهما مؤلفان الأول (الإفصاح عن أحاديث مختار الصحاح)، وهو تخريج للأحاديث التي وردت في كتاب مختار الصحاح الكتاب المتداول بين القرّاء وعامة الناس ومؤلفه أبي عبدالله محمد بن أبي بكر الرازي المتوفي 666ه، والرازي جمع كتابه هذا من الصحاح للجوهري في العالم اللغوي، وقد انتقى الرازي كتابه الألفاظ اللغوية التي يحتاجها العالم أو الحافظ وكذلك الأديب، وقد أضاف إليه كما يقول الرازي من كتاب (تهذيب اللغة للأزهري)، وحلا كتابه بجملة من الفوائد المهمة، فالكتاب تحفة لغوية ورتبة على أواخر الكلمات، حتى جاء الأستاذ اللغوي المصري محمود خاطر ورتبه على حروف الهجاء مبتدئاً بالهمزة منتهياً بالياء، وبذلك سهل تناوله لعامة الناس، ولعل الصقير لما شاهد انتشار الكتاب وتداوله أحب أن يخرّج أحاديثه الواردة فيه فكان عملاً طيباً ومباركاً، ولكي تتم الفائدة والمنفعة آمل في الطبعات القادمة لمختار الصحاح أن يضم هذا التخريج مع أصل مختار الصحاح، أمّا الكتاب الثاني فهو تحقيقه لتاريخ الفقيه المؤرخ إبراهيم الضويان وهي نبذة تاريخية عن منطقة نجد، وقد طُبع الكتاب طبعتان في حياة شخصيتنا، ويشكر الصقير عن نشر هذه النبذة التاريخية لأحد مؤرخي نجد وقد بذل فيها جهداً كبيراً -رحمه الله-. التأكد من المعلومة ودأب إبراهيم الصقير -رحمه الله- على البحث والتنقيب في المصادر والمراجع، خاصةً لمن يسأل عن معلومة من الباحثين، فهو يبحث ويقرأ حتى يتأكد من المعلومات ويفيد بها السائل كتابياً أو يدل السائل على مراجع المعلومة من المصادر والمراجع، وقد أخذت عنه بعض المعلومات ورويت عنه قصة طريفة حدثت لبعض تجار الزيير وأثبتها في كتابي (حكايات وقصص) يسر الله طبعه. وفي 1426ه في العشرين من شهر رمضان بعد ما صلى الجمعة وهو صائم فاضت روحه إلى بارئها، رحمه الله وغفر له، فهو في الحقيقة رجل صالح وعابد، أحسبه كذلك والله حسيبه. إبراهيم راشد الصقير «رحمه الله» د. راشد العساكر محمد الشنقيطي -رحمه الله- مؤسس مدرسة النجاة كتاب مساجد الزبير شارك الصقير المؤلف العسافي «الإفصاح عن أحاديث مختار الصحاح» إعداد إبراهيم الصقير إعداد- صلاح الزامل