التقيتُ بصديقتي التي لم أرها منذ عام، فدهشت من التغيّر الذي طرأ على آرائها. كانت فيما مضى متشددة في بعض المواضيع، لكنها اليوم، بعد سنة من الغياب، ظهرت برحابة أفق أوسع، مدعومة بتجارب جديدة ووعي مختلف. ولم أتعجب. فالحياة، بطبيعتها، لا تترك أحدًا على حاله وكما يقول جبران خليل جبران: «الأفكار تتبدل كما تتبدل الفصول ما ترفضه في ربيع العمر قد تتقبله في خريفه». هذا التغير الذي رأيته فيها أعادني إلى نفسي، إلى تجاربي الصغيرة التي حملت معها دروسًا. أذكر يوم دخلت القهوة السوداء حياتنا. كنت أستغرب ممن يتلذذ بمرارتها، وبعد تجربة أولى شعرت بأنها شراب لا يُحتمل. كنت أتعجب: كيف يمكن لمن يضعها في فمه أن يجد فيها لذة! لكن بعد سنوات من الممانعة والرفض، وجدت نفسي أبحث عنها، وأستشعر فيها شيئًا لم أجده في المرة الأولى. وهنا أدركت سرًّا مهمًا: الإنسان لا يجب أن يرفض الأشياء بقوة. فما نستنكره اليوم قد نتقبله غدًا، التقبل الذي يعيدنا إلى الحياة برؤية جديدة. فالإنسان يغيّر أفكاره من خلال تجربة عاشها وحده، أو من خلال كلمة سمعها في لحظة استعداد داخلي، فتسقط في قلبه كبذرة صغيرة، تنبت ببطء حتى تصبح زهرة، وتُثمر معرفة جديدة. بعض هذه التجارب قد تكون قاسية، تحمل في طياتها الألم والمرارة، لكنها فرصة لفهم ذواتنا. ويحضرني هنا مثال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كان شديد الرفض للإسلام، لكن حين سمع آيات القرآن في بيت أخته، انشقت في قلبه نافذة نور. لم يتغير موقفه بالقوة، بل بكلمة لامست عمقًا بداخله فهدته للإسلام. التغير الحقيقي لا يحدث بالإكراه، بل يحدث حين يجد القلب أرضًا خصبة لاستقبال البذور فحين يختلي الإنسان بنفسه، تبدأ أعمق الحوارات الداخلية في الظهور. بعيدًا عن ضجيج العلاقات، وتوقعات الآخرين، يكتشف أنه يتشكل ويتحوّل ببطء، وكأنه يُنحت من جديد دون أن يشعر. في صمت هذه اللحظات ، يراجع الأخطاء التي ارتكبها، النجاحات الصغيرة التي تجاهلها، الخيبات التي حاول نسيانها، والفرح الذي استحقه لكنه لم يدركه. نحن وحدنا نعرف حجم التغيرات التي مررنا بها... نحن وحدنا نسمع الحكايات التي عشناها ولم نقلها لأحد. قصص صغيرة وكبيرة، صدمات ومفاجآت، لحظات قوة وضعف كلّها تتجمع بصمت لتصنع نسخة أخرى منا، نسخة أكثر فهمًا للحياة، وأكثر وعيًا بذواتنا، وأكثر قدرة على تقبّل ما يأتي من المستقبل. والعجيب أن التحول الداخلي لا يحتاج دائمًا إلى حدث خارجي كبير. أحيانًا تكفي فكرة واحدة تبعثرنا، أو تجربة قصيرة لكنها عميقة. فالتغير الحقيقي يحدث في الداخل، في المنطقة التي لا يدخلها أحد، في صمت اللحظات مع أنفسنا فقط. هناك، يعرف الإنسان من أصبح، ومن لم يعد، ومن هو في الواقع بعيدًا عن المظاهر الاجتماعية والتوقعات المفروضة ومع كل مرحلة جديدة، تنسحب نسخة قديمة في هدوء، وتظهر نسخة أخرى أكثر وعيًا أو حتى أكثر هشاشة، لكنها دائمًا نسخة حقيقية. ومع مرور الزمن، ندرك أن كل مرحلة جديدة تصنع منا نسخة مختلفة. بعض التجارب تجعلنا أقوى، أكثر وعيًا، بينما قد تدفعنا تجارب أخرى نحو الضعف أو المرارة إن لم ننتبه لها. لذلك، لعلّ أسمى ما نسعى إليه هو أن نصبح نسخة أفضل مما كنا عليه، وألا ندع الحياة تصنعنا عكس ما نرجوه. فالتحدي الحقيقي ليس في النجاة من التجارب، بل في قدرتنا على التحوّل عبرها نحو الأفضل.