حين يحتدم الصراع لا ينتصر للأوطان غير أهلها، حقيقةٌ أثبتتها حوادث الأزمان المتعاقبة، وتوارثتها سير الشعوب التي تفاخر بتضحياتها في ساحات الوغى دفاعًا عن أراضيها ومصالحها. وفي عصرنا الحديث نرى ساحاتٍ للصراع تتشكل وتتوسع كل يوم، حيث فضاءات الإعلام والتواصل الاجتماعي، التي تموج بمعارك لا تقل ضراوةً ولا تأثيرًا عن مواجهات الرجال بالسلاح والنار، وإن كانت أدواتها كلمات وصور وقودها التضخيم والكذب والتضليل، وضحاياها العقول والقناعات، التي حين تُخترق وتسقط يسقط ما بيد أصحابها، إلا من تجهز لطوفانها بلباس الوطنية الراسخة والوعي المستيقظ وعزمٍ يتجاوز مكر الأعداء الصرحاء والأصدقاء الألداء، وطول نفسهم في معركة عنوانها تزييف التاريخ و»استلاب الوعي». الحقيقة إن محاولات الاستلاب والسيطرة على العقول ليست جديدة في مسيرة الأمم، بل هي قديمة قِدم وجود البشر وصراعهم على الموارد والنفوذ، الذي يبلغ مداه «أحيانًا» فتستعر الحرب الدموية «بكلمة»، ثم ما يلبث أُوارَها أن ينطفئ «بكلمة أخرى»، وبينهما طوفان من الدماء وأشلاءٌ من الأجساد! نعيش اليوم شكلًا مغايرًا من الصراع، حين يسعى المنتحلون والمضللون عبر فضاءات الإعلام، ولا سيما الرقمي منه إلى خلق إجماع زائف حول رواية مختلقة أو مجتزأة من سياقات الواقع والتاريخ، فإن لم تُفلح مساعيهم في تسويق تلك الرواية المكذوبة، فلا يرضون بأقل من تشكيك الجمهور المستهدف في سردياته التاريخية وثوابته الدينية والوطنية. لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت للمتربصين بالمجتمعات والأوطان، طرقًا جديدةً للتلاعب بالوعي من خلال العديد من التقنيات المتطورة، فالخوارزميات والإشعارات والرسائل المتواصلة وتقنيات التزييف العميق، تطرق مجتمعةً نافذة التحيزات المعرفية لدى الأفراد؛ والهدف جذب الانتباه وتشكيل السلوك وفق خطط المنتحلين ومن يقف خلفهم بالدعم المعنوي والمادي. كانت بلادنا وبسبب ما حباها الله من نعمٍ تمثلت في قدسية المكان، وخيرات الأرض وأصالة الإنسان، كانت وما تزال هدفًا للأعداء الظاهرين والمستترين، فمنذ أن قيض الله لها الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود -غفر الله له-، الذي وحد الكيان السعودي العظيم وجمع شتات أهله، منذ ذلك الحين وسهام القوم تحاول النيل من وطن العطاء والسلام، وذلكم هو الحال خلال العهود اللاحقة، وحتى العهد الزاهر الذي نعيشه اليوم تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمين -يحفظهما الله-، بيد أن طرق القوم هذه الأيام تعددت وحيلهم تجاوزت التوقعات، حتى وجدنا من يتزيَّا بلباسنا ويتحدث بلهجتنا ثم يبث دعاياته وتضليلاته محاولًا هتك النسيج الوطني، وتشويه التاريخ الناصع، إلى أن تكشفت عنه حُجب التقنية وعن غيره؛ لتتضح رقعة الاستهداف وحجم العداء التاريخي ومداه على خريطة العالم القريب منا والبعيد. هي جولة في حربٍ مستعرة أثبت فيها السعوديون أنهم الحصان الأصيل الرابح في رهانات التصدي، إذ تفوقوا بوطنيتهم وأخلاقهم ووعيهم على المتربصين والمنتحلين ومن يقف خلفهم، ليثبتوا للعالم أن هويتنا تأبى الاستلاب.