المملكة وأذربيجان.. تعاون مشترك لاستدامة أسواق البترول ومعالجة التغير المناخي    رئيس مجلس القيادة الرئاسي يوجه بسرعة العمل على فتح الطرقات وتقديم المساعدة    صدور بيان مشترك بشأن التعاون في مجال الطاقة بين المملكة وجمهورية أذربيجان    الفيحاء يتغلب على الاتفاق بهدفين في دوري روشن    موعد مباراة الاتحاد القادمة بعد الخسارة أمام أبها    ميتروفيتش: لم نحسم لقب الدوري حتى الآن    أبها يهزم الاتحاد بثلاثية قاسية في رحلة الهروب من الهبوط    الهلال يتغلب على التعاون بثلاثية ويقترب من اللقب    إدانة المنشأة الغذائية عن حادثة التسمم الغذائي وإغلاق فروعها بالرياض والخرج    بايرن يُجري عدة تغييرات أمام شتوتجارت    نمو الغطاء النباتي 8.5% بمحمية "الإمام تركي"    توسيع نطاق الاستثناء الخاص بالتصرف العقاري    مدير «الصحة العالمية»: الهجوم الإسرائيلي على رفح قد يؤدي إلى «حمام دم»    "درع الوقاية 4".. مناورات سعودية – أمريكية بالظهران    بعد نحو شهر من حادثة سير.. وفاة نجل البرهان في تركيا    31 مايو نهاية المهلة المجانية لترقيم الإبل    غداً.. منع دخول المقيمين لمكة دون تصريح    تركي الفيصل يرعى حفل جائزة عبد الله بن إدريس الثقافية    «الدفاع المدني» محذراً: التزموا البقاء في أماكن آمنة وابتعدوا عن تجمُّعات السيول    موعد مباراة الهلال القادمة بعد الفوز على التعاون    الشرطة تفرق اعتصاما مؤيدا للفلسطينيين في معهد الدراسات السياسية بباريس    المعرض السعودي للإضاءة والصوت SLS Expo 2024 يقود التحول في مستقبل الضوء الاحترافي والصوت    القبض على أشخاص لترويجهم المخدرات في عدد من مناطق المملكة    الفوزان: : الحوار الزوجي يعزز التواصل الإيجابي والتقارب الأسري    رئاسة وزراء ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي تنظِّمان مؤتمرًا دوليًّا للقادة الدينيين.. الثلاثاء    جامعة الإمام عبدالرحمن تستضيف المؤتمر الوطني لكليات الحاسب بالجامعات السعودية.. الأربعاء    "ريف السعودية": انخفاض تكاليف حصاد المحاصيل البعلية بنسبة 90%    الجمعية السعودية للإعاقة السمعية تنظم "أسبوع الأصم العربي"    الصحة العالمية: الربو يتسبب في وفاة 455 ألف إنسان    إشعار المراسم الملكية بحالات سحب الأوسمة    سحب لقب "معالي" من "الخونة" و"الفاسدين"    تحويل حليب الإبل إلى لبن وإنتاج زبد يستوقف زوار مهرجان الألبان والأغذية بالخرج    الذهب يتجه للانخفاض للأسبوع الثاني    الأهلي يقسو على ضمك برباعية في دوري روشن    " عرب نيوز" تحصد 3 جوائز للتميز    "تقويم التعليم"تعتمد 45 مؤسسة وبرنامجًا أكاديمياً    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية    المملكة: صعدنا هموم الدول الإسلامية للأمم المتحدة    وفيات وجلطات وتلف أدمغة.. لعنة لقاح «أسترازينيكا» تهزّ العالم !    ب 3 خطوات تقضي على النمل في المنزل    136 محطة تسجل هطول الأمطار في 11 منطقة بالمملكة    شَرَف المتسترين في خطر !    الخريجي يشارك في الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية للدورة 15 لمؤتمر القمة الإسلامي    لجنة شورية تجتمع مع عضو و رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الألماني    انطلاق ميدياثون الحج والعمرة بمكتبة الملك فهد الوطنية    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية ويشهد تخريج الدفعة (103)    قصة القضاء والقدر    كيف تصبح مفكراً في سبع دقائق؟    كيفية «حلب» الحبيب !    من المريض إلى المراجع    أمير جازان يطلق إشارة صيد سمك الحريد بجزيرة فرسان    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    مركز «911» يتلقى (2.635.361) اتصالاً خلال شهر أبريل من عام 2024    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    ما أصبر هؤلاء    هكذا تكون التربية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التأويل "الريفي" و"القبلي" و"المديني" للعنف العقيدي المسلح . المقارنات بين ظاهرة بن لادن والفاشية على محك التحليل السياسي - الاجتماعي
نشر في الحياة يوم 06 - 04 - 2002

لم يتردد مراقبون أوروبيون وأميركيون في المقارنة بين حركة بن لادن وحركات الإسلام السياسي "المسلح" عموماً، وبين الحركات الفاشية، أو الفاشستية، الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وتعود المقارنة الى انتصار روح الله خميني بإيران، وانتشار الأحزاب الخمينية بغير مكان وموضع في المجتمعات العربية والإسلامية. فيومها، في عقد الثمانينات من القرن العشرين، أوحت الجموع الخمينية المتكتلة كتلاً متراصة يغلب عليها الفتيان والشبان، والماشية الى الموت المأمول من غير تردد، والمنقادة الى "مرشد" مطاع الأمر والفتاوى، والمستبيحة كل الحدود، السياسية والمعنوية، في سبيل نصرة "دينها وسياستها" - أوحت بتسمية "الفاشية الخضراء" وبصفتها التاريخية.
هناك مؤرخون وأهل اجتماعيات و"علماء" سياسيات إسلامية كثر أنكروا صحة الصفة وصدق المقارنة المذكورة في المقدمة، وكان جمع الحركات والأنظمة الفاشية والنازية والشيوعية تحت تسمية الكلِّيانية او الشمولية التوتاليتارية نفسه، أي الجمع، موضع مناقشة ومراجعة. أما ما بعث على إنكار جواز المقارنة فأمور تعود الى المجتمعات الإسلامية مثل ضعف دولها، وتفكك سلطاتها السياسية المركزية، وتنافر جماعاتها ونازعها الى الاستقلال بنفسها وانقسامها وتناحرها. وبدا احتكام الحركات الإسلامية السياسية والمسلمة الى الشرع، وزعمها الصدور عن هذا الشرع، وطلبها إعماله في وجوه الحياة كلها من غير استثناء، عاصماً لها وحامياً من الوقوع في الكليانية او في صيغتها الفاشية ولو خضراء.
فالكليانية لا تتم صفتها إلا بالجمع بين تنظيم المجتمع والدولة وبين "العلم" أو العلوم الطبيعي والمعاش والأخلاق في واحد. وهذا ما تنكره الأديان عموماً. وقد يؤدي الداعي الديني الغالي، إذا أفلح، الى إنشاء امبراطورية. وهذه لا مناص من ان تكون مفككة الأوصال بين مركز مفترض وأطراف اكيدة. أما الدولة الكُلِّيانيَّة فصعبة المنال.
المقارنة المضطربة
ولم تحل المطاعن في المقارنة بين الفاشية وبين حركات الإسلام السياسي المسلح والسري، قبل نحو عقدين من الزمن، دون عودة المقارنة وتجدد التشبيه غداة "غزوة نيويورك"، على ما يسمي بن لادن او منتحل صفته في البريد الإلكتروني الى "القدس العربي" الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن. فذهب فرنسيس فوكوياما نيوزويك، في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2001 الى تعليل ظهور الحركات الأصولية الإرهابية ونشأتها ب"اجتثاث اعداد كبيرة من السكان من القرى وحياتها الريفية، ومن الحياة القبلية، في اثناء جيل واحد".
ويشبِّه الحادثة الاجتماعية الكبيرة هذه ب"ظاهرة مثيلة"، أوروبية، كانت في اصل نشأة "الفاشية الأوروبية". وتترتب الأسباب والعلل الأخرى، بحسب فوكوياما، على العلة الأولى هذه. فتمدْيُن المقتلعين والنازحين هؤلاء، أو تقلبهم بين مظاهر حياة جديدة خلابة وممتنعة في آن، يعرّضهم الى طلب الاحتماء ب"الجذور النقية والأصيلة" وإلى السعي في إحياء هوية أولى، وتعليل الخسارة الفادحة التي نزلت بهم، امة وأقواماً وأفراداً، بالانحراف عن الهوية الأولى وأوامرها ونواهيها. فصوغ العقيدة الأصولية المسلحة، على هذا، ليس إلا رد جواب على "حداثة" مباغتة، سطحية وقسرية، وحملاً للحداثة هذه على الفقر والركود الاقتصادي والاستبداد السياسي والاستلاب الثقافي.
وإذا قصر فؤاد زكريا، كاتب افتتاحية في "نيوزويك" ورئيس تحرير "فورين آفيرز" في السياسات الدولية، مقارنته بين الحركات السياسية المسلحة وبين الفاشية على اشتراكهما في "العقيدة المسلحة"، فتناوله علاج هذه الحركات، بواسطة "الانفتاح والقوانين والاستقرار"، ينحو نحواً اكثر اجتماعية من تعليل فوكوياما، وأقل تأريخاً وتوليداً. فهو يعزو قوة "الأصولية الإسلامية" الى تبديدها "الحقائق والوقائع البائسة" من طريق طوبى عريضة، وأحلام سياسية تخيط شظايا الواقع المهشمة بعضها الى بعض بحبال الهواء ولعاب العنكبوت. فالعودة الى الواقع، وهو اقتصادي في المرتبة الأولى على ما يحسب وارثو ماكس فيبر وكينز، إنما طريقها نشوء "طبقة حقيقية من المقاولين" ورجال الأعمال المنتجين. ويعبد تحريرُ الاقتصاد وسيادة القانون العقود الرأسمالية والانفتاح على العالم الطريقَ الى ولادة الطبقة هذه، ومعها نواة مجتمع مستقر ومنتج.
والحق ان ذريعة العودة الى المقارنة بين الجماعات الإسلامية المسلحة وبين الفاشية الأوروبية هي الإرهاب الجماهيري، على ما ظهر في الهجوم على الولايات المتحدة الأميركية. وسمى اصحاب الهجوم عملهم هذا "جهاداً"، ونسبوه الى الفريضة الشرعية التي نعى احدهم "غيابها" من الاعتقاد السياسي المعاصر. وتناول الجماعات المسلحة المعاصرة على وجه الجملة يدل من غير لبس على المكانة العالية التي تنزلها هذه الجماعاتُ القتلَ الجماعي أي الإرهاب الجماهيري، وخصوصاً قتل المدنيين والتمثيل بهم، من مراتب العمل "السياسي".
فبعض الجماعات المسلحة الجزائرية والمصرية والفلسطينية وقبلها كلها السورية وعلى نحو ما اللبنانية توسلت بقتل المدنيين العزّل والآمنين الى زعزعة سلطة الدولة الوطنية، واستدراجها الى رد اعمى لا يعف، بدوره، عن المدنيين. ويؤدي هذا، إذا عمّ ودام بعض الوقت، الى بلبلة دور الدولة، وينتزعها من وظيفتها التحكيمية والمحايدة ويحط بها الى دوامة الثارات العشائرية والحروب "الخاصة". وعلى هذا لا يبدو التعليل "الفاشي"، و"الريفي" "القبلي"، في المعرض العربي والإسلامي، وافياً. وذلك على نحو ما لا يفي التعليل هذا بفهم السابقة الأوروبية، وهي مثاله المفترض.
وتعليل السابقة الأوروبية لم يقتصر، في الأعمال الرائدة مثل عمل حنة آراندت الصادر قبل نصف قرن في النظام الكلّياني، على تقرير الاقتلاع الجماهيري من الريف، وعلى رمي الجموع العريضة في مدينة "بلا قلب"، على ما كنى الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي عن القاهرة. فإذا كان الاقتلاع من دنيا العلاقات المتماسكة والمفهومة والمتواردة أو المتناغمة، والارتماء في لجة من غير قرار ولا مَعْلَم، هما نواة الاختبار الذي ولد الكليانية الجماهيرية الأوروبية وعنفها المدمر في الداخل والخارج، فالنواة هذه تنطوي على طبقات من المعاني ترسبت وانعقدت في سياقة حوادث خصوصية تعصى التلخيص "الريفي" أو "القبلي".
فالحركات الفاشية تتقاسم، الى عصبية قومية محمومة، كراهية الليبرالية والديموقراطية وهيئات الدولة المنتخبة وإدارتها البيروقراطية وسلطاتها المنفصلة والمستقل بعضها عن بعض. ولعل العسكريين، وخصوصاً الضباط المتحدرين من الطبقات المحافظة والقديمة، هم اشد الناس كراهية لنظام علاقات اجتماعية وسياسية يصفونه بالفساد والميوعة والانقياد لمصالح تتخطى الحدود الوطنية وتتشابك مع مصالح رأسمالية "هجينة" و"يهودية". وتلي المراتب الكنسية المراتب العسكرية في التحفظ عن الليبرالية والديموقراطية والتشكيك فيهما. فهاتان تمثلان، على زعم المراتب الكنسية، على الفوضى العارمة، والأمن السائب، والإرادة السياسية التائهة. وما ذلك، على الزعم نفسه، إلا ثمرة الابتعاد من الاعتقاد الجامع والضارب بجذوره في تربة ذاكرة وتراث محفوظين وثابتين.
فإذا نهضت الدولة "الديموقراطية الدستورية" على أنقاض هزيمة عسكرية، وكان هذا شأنها في ألمانيا وإيطاليا والبلقان وشرق أوروبا وفي فرنسا من قبل، ولابست خطواتها الأولى فضائح مالية مدوية، وظهر تواطؤ رجال المال والسندات المالية مع المجالس النيابية والسياسيين المائلين مع المنافع والرشوات - أيقن رأي عام مضطرب ومتشكك ان الدولة، بمجالسها وإدارتها وهيئاتها، هي جسم غريب عن "الأمة"، زرعته فيها ايدٍ خفية "يهودية" أرادت الضعف والانحطاط والأفول للأمة أو للعرق. ففي أصل نشوء الحركات والنزعات الفاشية، على ما كتبت آراندت، "تأزم علاقة طبقات المجتمع كلها بالدولة والحكم".
وتتصدر "جماهير الغوغاء وجموعها" الأزمة العريضة هذه، وتبرز عَرَضاً صارخاً من اعراضها. وجموع "الغوغاء" أو "الدهماء" الأوروبية وغير الأوروبية خليط متنافر من بقايا الطبقات المختلفة وسواقطها. ولا يقتصر امرها لا على الطبقات الريفية، ولا على الأبنية العشائرية. فالتغير الاجتماعي الرأسمالي، على صوره المتفرقة والمتباينة، لا يفتأ يقلب الطبقات الاجتماعية رأساً على عقب، ويجدد افراد هذه الطبقات، فيخرج منها من كان فيها ولم يحسن التكيف مع اطوارها الجديدة، ويدخل فيها من انتهز الفرصة او اعد العدة المناسبة لها. فيجتمع في "قاع" المجتمع، على قول مكسيم غوركي، من تساقطوا من الفئات الاجتماعية وأعيتهم الحيلة، ومن لم ينجحوا في الارتقاء والاستقرار في مرتبة مُرضية يحملونها على مرحلة او محطة في مسيرة ثابتة.
ولهؤلاء ثقافة سياسية تكاد تكون واحدة على اختلاف المجتمعات وتفرقها. فعلى حين يسعى الشعب في نظام سياسي يرعى تمثيل اجزائه وأقسامه المتفرقة - والشعب يقر بانطوائه على اجزاء وأقسام على خلاف الجماهير الواحدة - تهتف جماهير الغوغاء لِلْ"بطل" و"الرجل القوي"، "العظيم" و"التاريخي"، وترى فيه علاجاً شافياً ل"أمراض" الانحلال والتفكك والتخرب. فتوكل إلى رجلها جمع شتاتها في يده وإلهامه. ومنشأ هذه الثقافة السياسية نفي المجتمع جماهير الغوغاء من الهيئات السياسية، وإخراجه اياها من تمثيل ومشاركة تزدريهما الجماهير، وتحملهما على الاحتيال والدجل. فيتبادل المجتمع المستقر و"المتوسط"، وجماهير المتساقطين من طبقاته والمستشعرين الظلم والحيف في الشاردة والواردة، يتبادلان العداء والكراهية والحرب. وترفع الجماهير بوجه المؤسسة السياسية الديموقراطية والدستورية الأولى، الهيئة التشريعية المنتخبة، طلب الاحتكام الى "الشعب" مباشرة ومن غير وسيط، من طريق الاستفتاء العام أو المبايعة العامة والمجمِعة. فتنصب جماهيرُ الغوغاء، بواسطة الاستفتاء او تظاهرات المبايعة والاقتراع هتافاً، صاحبها فوق الهيئات والمؤسسات والسلطات، وتبيح هذه كلها له من غير قيد ولا شرط. وتوجز السياسة في "لعبة" قوى خفية أو في "لعبة الأمم".
ويقر فريق من المثقفين، بعضهم تقليدي الثقافة والمنابت الاجتماعية وبعضهم ثوري النازع ومحدثه "حداثويه"، جماهيرَ الغوغاء على مزاعمها في التمثيل على روح الأمة أو العرق، وفي بثها قوة متجددة في الأبنية السياسية والحياتية و"الثقافية" المتآكلة أو المصطنعة. ويذهب هذا الفريق من المثقفين الى ان الإحياء والنهوض لا يستقيمان إلا بالأصالة. ومادة الأصالة هي الجماهير المقيمة على الفطرة والطبع الأولين، والنائية بنفسها عن التهجين والاختلاط الأجنبيين. والأصالة هي، من باب آخر، علاج الديموقراطية وأمراضها. وأول الأمراض ضعف المناعة من الآثار الغريبة والهجينة. فمجد المثقفون تعبير "السليقة" الجماهيرية عن الأصالة والفرادة، ومدحوا انقياد العوام والجماهير لبطلها وزعيمها ومرشدها والكلمة ترجمة للفوهرر الألمانية، وتقديمها النفس بين يديه، وافتداءها إياه بالدماء والحياة.
الجماهير ضد الدولة
وترتب على الأخذ بالأصالة والفرادة والزعامة، وبالخصوصية التاريخية عموماً، ذم ما ينحو نحو الجامع العام "الأونيفرسل" أو "اليونيفرسل" وينزع إليه. وحُمل القول بالجامع العام، أو بجوازه وإمكانه، على الخداع والتستر على سيطرة "البورجوازية" على نقيض كل الأمة أو "المتحد" الاجتماعي والتاريخي، أو سيطرة اوروبا على نقيض اممها المتميزة والمتباينة، وأخيراً على سيطرة "اميركا" و"الأمركة" على نقيض الثقافات التاريخية والأصيلة المختلفة، والكلمة ليست من نتاج القرن العشرين، بل يقع عليها القارئ في مقالات تعود الى منتصف القرن التاسع عشر الفرنسي. فلا عدالة على معايير عامة، ولا حقوق من غير تخصيص اصحابها تخصيصاً قومياً، ولا يصح الزعم ان ثمة قوانين تتعالى عن الظروف والمجتمعات، ويصدق الحكم بها في ظروف ومجتمعات متباينة ومتباعدة.
واتفقت الأزمة السياسية العامة هذه مع التنافس على اقتسام المستعمرات، أو ما عرف بالحقبة الإمبريالية. فأقامت الإمبرياليةُ، و"الفتوح" الاستعمارية، العرقَ المسيطر مقام الأمة السياسية والجسم السياسي. وأحلت البيروقراطيةَ الإدارية والعسكرية محل الحكومة المنتخبة والمقيدة بقيود قانونية وعرفية. فلم يبق من مسوغات السيطرة الشرعية إلا اللون أو السلالة والصلب. ولا يصح هذا المسوغ إلا بالاقتلاع والتسلط على مجتمع وقوم غريبين و"مختلفين". والاقتلاع على هذا النحو يحيل جزءاً من القوم المتسلط الى فصيل عرقي، لا تربطه بمن يتسلط عليهم رابطة صناعية او اجتماعية، وتالياً إنسانية. فتحرير المقتلعين المتسلطين من العمل والسعي والكسب، وكلها عوامل ينجم عنها إنشاء عالم أو عمران على شاكلة من يعملون ويسعون ويكسبون، "يحررهم" من الصورة الإنسانية العامة، ومن الشبه بها. والتعالي عن العمل والصنعة، أو الانفكاك منهما، يؤدي الى إنكار الحدود الإقليمية الوطنية، وكراهتها، وإلى حمل النفس على الاصطفاء "النخبة" أو "الصفوة".
وحيث أتيح لمثل الجماعات المقتلعة هذه ان تتولى أمر مجتمعات برمتها، وحنة آراندت تضرب مثالاً افريقيا الجنوبية في عهد البُوِير الهولنديين، عمدت الى تعطيل البناء الصناعي والرأسمالي المنتج. وانتصرت الجماعات العرقية للعرق، ومنطقه الريعي "والسيادي"، على علاقات العمل والإنتاج المعقلنين. وقدمت معايير السيطرة الخالصة على معايير الربح والتجارة. فأثبتت، على ما أرادت وقصدت، أن في وسع المجتمعات ان تتماسك، بل ان تسود وتتسلط، وهي تنتهك المعايير الاقتصادية "العادية" وتزدريها باسم السياسة والسيادة العرقية، وباسم اوامرهما ونواهيهما. وشرط استتباب هذا النمط من السيطرة إرساؤه على العنف المحض، وتجريده من المسوغات الاقتصادية والإنتاجية. والأمران، الإرساء على العنف والتجريد من المسوغات الاقتصادية، ارتضتهما أو بالأحرى طلبتهما، وألحت فيهما جماعات المهاجرين الأوروبيين الذين تركوا بلادهم الأصلية، ومواطنهم الأولى، خاسرين اواصرهم الاجتماعية، ومواقعهم من الحياة الاجتماعية ومكانتهم.
وساست الجماعات هذه مستعمراتها وولاياتها وإقطاعاتها، سياسة بيروقراطية قوامها البت الصارم والمتعالي في المسائل فرادى، أي في كل مسألة على حدة، وبحسب الحال، من غير الحمل على قانون عام وواحد وملزم. فالقانون، على هذه الشاكلة، يرعى قيام مجتمع ينزع الى الثبات والدوام والمساواة والتماسك الداخلي، على خلاف حال الاستثناء والأحكام العرفية التي تسوس بها الإمبريالية المهجرية مهاجر بعض رعاياها ومستعمراتها. وفصَّلت الامبريالية المهجرية الحياة في المستعمرات أو المهاجر على مقاس المهاجرين الهاربين من مجتمعاتهم، وحاجتهم الى الاجتماع في "نخبة" و"المفاصلة" مع أي من الكثرة المحلية.
فربط بين سواقط الطبقات الاجتماعية الأوروبية المهاجرين الى المستعمرات "وعي قَبَليّ موسع"، على زعم آراندت، أو "وعي أمّي" نسبة الى الأمة، على المعنى العربي المعروف. ويؤلف الوعي الأمي، او القبلي الموسع، تأليفاً مضطرباً بين الفردية الناجمة عن التساقط والانسلاخ من الأجسام الاجتماعية السابقة، وبين الدخول في الفصيلة "الأهلية" أو العرقية والنَّسبية الجديدة، القائمة على اعتزال الكثرة المحلية وعلى مزاولة السيطرة الخالصة عليها.
وعلى هذا يدمج الوعي الأمي الفردَ، المنسلخ والمهاجر والمقيم في وسط كثرة مخالفة، وروحه في قوميته ورابطته بجماعته أو أمته. ويدمج حياته الخاصة في الحياة العامة وشعائرها ورسومها. فالعصبية القبلية أو الأمية تستقوي ب"الصراع" الذي تفترضه أزلياً وأبدياً بين الأمة وأعدائها المحيطين بها، والمتربصين الشرور والعدوان. ويؤبد "الصراع"، على هذه الشاكلة، وقوعُه بين شعوب او امم جوهرية، تميزها الواحدة من الأخرى ماهية تاريخية، فريدة. فالفرق بين الأمم يتقدم على اشتراكها في انسانية غائمة، وهذه لا يسلَّم بها إلا اذا كانت نظيراً تاماً للأمة المصطفاة، وعلى شاكلتها. وغلبت القومية القبلية او عصبية الأمة على بلدان كان نصيب شعوبها في تحررها الوطني، ووحدتها السياسية، ضعيفاً. فكان التحرر والوحدة ثمرة أحلاف وموازنات دولية وإقليمية، واضطلعت بهما طواقم حاكمة بمعزل من الإسهام الشعبي العريض والتلقائي.
واضطلعت العصبية القومية بالجمع بين دولة مركزية "قوية" وبين مجتمع متهافت ومشرذم. وأوكلت إلى القطب المركزي، الإداري والتنظيمي والتعبوي، تعويض الضعف الاجتماعي، وافتقار العلاقات الاجتماعية الى تربة تتغذى منها. وحَسِب اهل العصبية الأمية ان انتسابهم الى تاريخ قوة فاتحة، وميراث فتوح، يرفعهم فوق صغائر الحدود الإقليمية و"دويلاتها" الصغيرة والمقيدة بالموازين الدولية القاسرة. فتوهموا امكان بعث التاريخ الامبراطوري هذا، وتجديده تجديداً حرفياً وتفصيلياً. والقبلية وحدها أفلحت، على قول آراندت، في صوغ "نظرة دينية جديدة"، أي في حمل السياسة على الدين، "وفي انتاج مفهوم جديد للقداسة". فنسبت القوم، أو الأمة، الى أصل شريف فوق اصل البشر، وسوَّت الشعب "جمعاً متجانساً ومصطفى من الآلات المتكبرة".
ويتناسب التجانس هذا، وتعاليه عن الدول وحدودها السياسية، مع الاقتلاع والهجرة، من وجه، ومع امتلاء المدن الضخمة المحدثة بجموع مضطربة ورجراجة من وجه آخر. فأصلت الحركات الجماهيرية الكليانية الجذورَ المحلية الضيقة العداءَ، ودعت الى التنكر لها باسم روح الأمة الأوسع والأثبت. وبثت في صفوف الأقوام من مواطني الدول المجتمعة من اكثر من قوم، ما سمته "روح الخيانة"، اي نقل الولاء من الدولة الوطنية القائمة الى "قيادة" الأمة، أو "قيادة" الطبقة الاجتماعية.
غربة الأمة عن الدولة
فلازم عداءُ الدولةِ، وهيئاتها وقوانينها وشرعيتها، الحركات الجماهيرية. وخلصت الحركات هذه من الحكم بغربة الدولة عن الأمة، و"روحها"، الى تفوق الأمة ليس على الدولة وقيودها القانونية وحسب، بل على الشعوب والأمم المنقادة الى مثل هذا الشكل السياسي "المنحط". وسوغ هذا الرأي في الدولة التحالفَ بين الليبراليين، الرافضين تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية والسوق، وبين الحزب الاستبدادي الساعي في التحرر من قيود القانون وفصل السلطات. وحال التحالف العجيب هذا بين القوى السياسية المختلفة، والمتفاوتة التمثيل للشعب، وبين مراقبة شؤون الدولة وشجونها، والتدخل فيها وفي تشريعاتها. فأضعف ذلك من خبرة الشعب السياسية ومن اهتمامه بالدولة، وقوّى تسلط الحزب الاستبدادي عليها وحط من مكانة الدولة قياساً على مصلحة الأمة المفترضة. وحط من مكانة السياسة الداخلية، ولا سيما الاجتماعية، ومنازعاتها الجزئية قياساً على دور السياسات الخارجية و"لعبة الأمم" التي زادها إبهامها عمقاً وعظمة ومجداً.
وتذرعت الحركات الجماهيرية بحال الدولة هذه، وموضعها من اختبارها السياسي واليومي، الى إعلانها على الملأ احتقار القانون، وازدراء المؤسسات والهيئات الحقوقية. وبدا الخروج على الشرعية الدستورية بطولة وأصالة. وهي اختصرت الحكم والسلطة في احكام متعسفة لا سند لها غير القوة القاهرة. اما المجالس النيابية والتمثيلية فتصورت في صورة نوادي ثرثارين فاسدين يتسترون بثرثرتهم على تقاسم "الجبنة" والمنافع، كانوا في موقع الموالاة ام في موقع المعارضة. وترتب على الحكم بعموم الفساد والتواطؤ الموالين والمعارضين جميعاً ضعفُ الثقة في كل ما يمت الى بنيان الدولة بعلاقة أو صلة. وحاطت الخروجَ على الدولة هالةُ التعظيم والتقديس. فعزفت الجماعات المعارضة وغير البرلمانية عن الانخراط في السياسة، ومحورها الانتخابات ومراتبها وتكليفها. وانصرفت الى الإعداد لما حسبت انه وراء السياسة، وفوقها، وما لا يُدرك إلا من طريق "فعل مباشر" يلغي الفرق بين المداولة وبين القرار، وبين التشريع وبين التنفيذ، ولا يحتاج الى الإعلام والمناقشة وليس عليه ان ينتظر نضوج القوننة البطيء ولا تراكم الخبرات والسوابق والاجتهادات.
ونهض الولاء العصبي والحزبي، على الصورة التي عرفته عليها حركات الغوغاء وجموعها المقتلعة، على انقاض روابط الجماعات "الطبيعية" الأهلية ولحمتها، وعلى أنقاض اللحمات الاجتماعية والطبقية الناشئة عن تقسيم العمل الاجتماعي ووظائفه. فتذهب حنة آراندت الى انه من المحال على الحزبي ان يوالي حزبه او منظمته ولاءً تاماً ومطلقاً، وأن يصدع بأمر قيادة الحزب او المنظمة وأمر زعيمها ومرشدها إذا دان، في الوقت نفسه، ببعض الولاء لرابطة اخرى مثل رابطة الأهل او الصحب او الزملاء والأصدقاء. فشرائط الولاء الحزبي المطلق ألاّ تتعدد الولاءات أو تتكاثر، وألا ينفصل بعضها عن بعض او يستقل عنه، وألاّ يدين الحزبي لغير حزبه وولائه بإحساسه بجدوى حياته أو معناها. وهذه الشرائط لا تتحقق ولا تنجز إلا في الجماعات المصطنعة التي تربط بين افراد قطعوا كل اواصرهم وروابطهم بجوارهم الطبيعي المستقر، وحلوا في المجتمعات حلول الجاليات الأجنبية في المهاجر.
فينبغي ان تكون المنظمة او الحركة وطن مناضليها او محازبيها. وعليها ان تعزلهم عن الحياة السوية ومشاغلها وروابطها وهمومها. فيتحصن "الثوري المحترف"، على ما سماه لينين صاحب نظرية الحزب الثوري والانقلابي، من الحياة السوية والعادية بحزبه وطاعته ونشاطه. وعلى هذا تعمدت القيادة النازية نقل ضباط فصائل الهجوم "قوات الصدم" في المصطلح المحلي والفصائل الخاصة أو "القوات الخاصة" أو النخبة من مواقعهم، وحالت بينهم وبين الاستقرار في مكان أو موقع، وإلفته وتوطنه. ودأب القيادة إشراك الناشطين المحازبين في المسؤولية عن العمل الواحد، لا سيما إذا كان ارتكابه يرتب مسؤولية فردية. ولا ينفك الزعيم، أو "الزعماء" على مراتبهم من المرتبة العليا الى أدنى المراتب، يعلن مسؤوليته الشخصية والمباشرة عن اعمال محازبيه وناشطي منظمته.
وتتمم السرية التي تلف القيادة، المسؤولية المشتركة، أو نفي المسؤولية. فما لا يُسأل عنه مرتكبوه المباشرون لا يسأل عنه احد، ولا مسؤولية عنه. وما لا شك فيه هو ان غاية اولى من غايات العمل السري، الى الحرص على الفاعلية المبتغاة، هي تضييع المسؤولية عن اعمال غير شرعية. ولعل الغاية الثانية، السياسية، هي تصديق صورة عن السياسة تحلّها في صراع مستميت بين قوى خفية عالمية، وعلى المنظمة ان تحاكيها خفاء وعالمية. فأن يتحول المناضل أو المحازب أو "المجاهد" في لغة اخرى الى آلة خالصة بيد قيادته يبلغ ذروة الذاتية والإرادية. وينفك، تالياً، من كل منطق يخالف منطق القيادة السرية. ويتماسك منطق هذه تماسكاً محكماً وهاذياً على قدر ابتعاده من موازين الحياة العادية والجارية.
فالسرية ترمي الى إضعاف تمييز الوقائع والحقائق من خلافها، والى التشكيك في جواز مثل هذا التمييز أو السعي فيه. فينبغي ان يخلص المناضلون والمحازبون الى ازدواج العالم وحوادثه الى باطن حقيقي وظاهر زائف، على شاكلة المنظمة او الحزب. وعلى هذا ينأى المحازب أو الناشط بنفسه، وبمنظمته او حزبه، عن الواقع المشترك، أي الواقع الذي يشاركه فيه الآخرون ويستوي واقعاً من طريق هذه المشاركة وليس من نفسه. ويحل له ان يعمل على هدي من معاييره الخاصة. ولا معايير، على زعمه، إلا خاصة، فيجوز تدمير العالم المشترك الذي يحتمي بالعمومية، على رأي الحزبي فيه، ليولد منه عالم حقيقي لا يتميز ظاهره من باطنه، ويسوده قانون الجماعة السرية. وهذا هو "الكبريت الأحمر"، على ما كتب الغزالي قديماً، أو الدائرة المربعة.
ولا ريب في ان استعادة آراندت السريعة هذه تعقد التعليل "الريفي" الذي يتوسل به زكريا وفوكوياما وغيرهما، والمقارنة التي يقيمها أو يعقدها بعض الكتاب بين الحركات السياسية والإسلامية المسلحة وبين الفاشية الأوروبية. والحق ان وجوه الشبه اكثر بكثير وأعمق من الانتقال الاجتماعي والاقتلاع والتوسل بالعنف، وهي ما تقصر عليه المقارنة عادة. وإحصاؤها، أو إحصاء بعضها وإدراجها في سياقتها التاريخية، يجعل "العلاج" أبعد متناولاً. فالمجتمعات التي تلد الحركات "الفاشية"، والكلمة محمولة هنا على الاستعارة ليس إلا يضرب مرضها، او اعتلالها، في نسيجها، وتتغلغل اسبابه في عروقها وأوردتها.
والعروق والأوردة هي كناية عن نشأة الدولة من المجتمع والصدور عنه، وعن احتكامه الى قانون عام وجامع انساني. وإذا كانت الفاشية، والكليانية عموماً، نشأت عن ازمة الدولة الشاملة: في علاقتها بمجتمعها وببعض جماعاته، وعلاقتها بالدول والمجتمعات الأخرى، وفي تنظيمها لاقتصادها ومدنها، وفي دخولها تحت فكرة الإنسانية الواحدة والكوسموبوليتية - فالمجتمعات التي لم تخرج، بعد نيف وقرنين، من ازمات انشاء دولها وصوغ انظمتها الإقليمية، لا بد ان تعاني اعراض "فاشيةٍ" مزمنة أو متطاولة. وأعراضنا تشبه هذا الوصف شبه القذة بالقذة، على ما جاء في بعض الأثر.
والعلاج ب"الطبقة الوسطى"، أو ب"المقاولين"، أو ب"الديموقراطية"، و"الليبرالية الدستورية"، يغفل عن السابقة الفاشية الأوروبية التي لم تصب مجتمعات خالية من هذه كلها، وعلى قدر لن تبلغه المجتمعات المعتلة بعد عقود طويلة، إذا بلغته في يوم. وهذا يُسلم، مرة اخرى، الى إعمال الفكر في "ناموس الأرض" الجديد، والعلاقات الدولية، السياسية والاقتصادية والعسكرية، التي تتفق وإياه.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.