بجانب جدار الطين يستند بجسد نحيل يحمل حرارة الشمس تسترخي على جلده الخشن.. لقد جعل من صموده شماعة يعلق عليها عناء الحياة.. كيف له أن يتحمل كل هذا بدون أن تنبس شفاهه بحرف واحد. تحبط بكفه سبحة من نوع قديم قد أهديت له من ابنه حامد عندما رجع من أداء فريضة الحج. يتكئ برأسه الأبيض على جدار الطين.. تنقلب في سراديب ذاكرته.. صور شريط كامل مضيء وهو يرى أمامه صورة صبية القرية وهم يتقمصون أدوار أجدادهم عصا خشبية حدبة في أعلى الظهر.. أعني مغمضة قليلاً وشفاه تتحرك ببطء وكلمات من التأنيب والغضب يصب في الأذنين. لقد كنت في مقدمة الصبية، وقفت على تلك الدكة، الأولاد أمامي قد انفرطوا في ضحك وسعادة.. هاهو جدنا أبو حامد قد حضر.. اهربوا إلى منازلكم.. افتح عيناي.. انهال عليهم بالضرب بعصا خشبية بالية قد تكسرت في يدي وحدث فيها ما حدث من خدوش تنزف بدماء البراءة.. يبعد رأسه.. يتكئ بلحيته المصبوغة بلون الوقار على رأس منحنية لعصا من الخيزران.. لقد رحل الجميع الآن.. وكيف مضت تلك السنوات وخطف قطار العمر أجمل لحظات السعادة من قلوبنا؟ يمر أمامه ظل بلا ملامح يقف أمامه صورة حامد يحدثه يحمل بين يديه دلة القهوة.. إناء مملوء بالتمر السكري يضعه أمامه يرتشف مع حامد القهوة يتحدثان في أمور الحياة ولا يخلو حديثهما من النكت المسلية.. أبيات شعرية يكتنزها أبو حامد في ذاكرته لون عاطفي وآخر رثاء ويقفز من ثناياها بعض الألغاز.. يبتسم بشفاه مشققة يمسح من على وجهه المتجعد قطرات قد اختفت مع ذلك الظل!! أين أنت يا حامد لقد طويت الساعات الطويلة وأنا أحدث نفسي أسامر ظلك أرتشف مع عذوبة صوتك أطيب أنواع القهوة وأجود أنواع التمر. لم يبقَ منك إلا ظل يعبر شوارع القرية المظلمة يختبئ في زوايا المنزل الموحش.. أي علم هذا يجعلك تهرب؟! من عشك الصغير.. تتمرد على هذه العادات والتقاليد تكره أجواء هذه القرية الوادعة. أي قلب يختبئ في جسدك الذي احتضنته! ألبسته أجمل الثياب وتسكب عليها أغلى أنواع العطور لقد ربيتك أحسن تربية ولكن الآن أقطف من شجرة شيخوختي ثماراً جافة بلا لب أو حتى رائحة جميلة تخفف عني هذا الحمل الثقيل.. الساعة في معصمه تشير للسادسة عصراً تتحرك من مكانه قليلاً يجمع قواه التي أصبحت عبارة عن أشلاء تتوزع هنا وهناك في دروب الطفولة ظل مضى معه جسد ابنه الغائب صوت الضحكات التي أصبحت دموع الآلم تبلل ما فيها نضارة السعادة المزيفة.. يخمد نار غضبه ودموع عمره الضائع بكلمات مشددة تتغلغل إلى صميم الأوردة لتحيي فيها شموخ الطاعة. وقيمة العمر بين يدي الخالق جل وعز. في زاويته سجادة بلون أحمر.. مسبحة قديمة ظل يتمدد على الجدار يغلق معه زحف جحافل الظلام.. لقد حضر ذلك الظل ولكن لم يتفيأ ظلاله كيف وهذا الصمت يطبق على أنفاسه.. يدخل في قلبه هلع الوحدة ودثار الحزن مع جسد غابت معه ملامح الظل الحقيقي!!