بعد سبعة شهور من التحذير من الأخطار الوشيكة، تبقى أسواق دول مجلس التعاون الخليجي عائمة إلى حد معقول وقريبة من مستوياتها الأكثر ارتفاعاً من دون التأثّر بالمخاطر المتعلّقة بالتقويم الزائد المستمر. والواقع أن الأسواق في عُمان والبحرين والإمارات خفضت بشكل ملحوظ خلال الربعين الماضيين، فيما لم تُظهر قطر سوى ارتداد تقني بفعل الخفض في أواسط السنة. لكن فيما لم يكن من غير المتوقع الارتفاع الذي حصل في السوق الكويتية التي كانت حتى ذلك الوقت مقوّمة بأقل مما يجب، كان صمود السوق السعودية المهمة مفاجئاً لا بل مذهلاً نظراً إلى التقويم العالي أصلاً. وما زال المال يتدفّق إلى الأسواق كما تبيّن التقارير عن صندوق أسهم سعودي بقيمة بليون دولار سيطلقه قريباً البنك الأهلي التجاري، وكما يبيّن الإقبال على الإصدار العام الأول للريّان في قطر. لكن التطورات الأخيرة تبدو أنها تؤكّد على التدهور المتوقّع في الأساسيات، مع ارتفاع الفوائد وتباطؤ الإيرادات وعدم احتمال تحوّل التقويمات إلى تقويمات مقبولة في القريب العاجل. ويؤدّي الدليل المتزايد الذي يدعم الموقف الحذر إلى انتقال واضح في إجماع السوق، وقد لعب دوراً في الحدّ من الأرباح في أربع من ستّ أسواق إقليمية على مدى الشهور الماضية القليلة. وسيعتمد احتمال إدراك الأسواق فرط تقويمها وزمن إدراكها ذلك على عوامل عدة منها رضى المستثمرين بأن يضخّوا من دون هوادة الأموال في الأسواق، وتسامح السلطات النقدية الإقليمية مع المضاربة المستمرة، والمستويات الحقيقية للفوائد والإيرادات والنفط. وما زال الاستثمار المحفوف بالمخاطر في الأسواق المحلية يميل نزولاً، وقد يعطي المال أفضل العائدات المعدّلة بحسب الخطورة في دول مجلس التعاون الخليجي هذه السنة. العائدات المتضائلة وعلى رغم الأرباح الإجمالية في السعودية والإمارات في السنة الماضية، كانت أسواقهما مكبوتة خلال النصف الثاني. فقد ارتفعت الأسواق السعودية بنسبة 28.3 في المئة، وخفضت الإماراتية بنسبة 3.4 في المئة، وبلغ معدّل العائدات 12.4 في المئة. وحقّق مؤشر"Gulf Investment Corporation Composite"الإقليمي، الذي ارتفع بنسبة 82.3 في المئة في النصف الأول من السنة الماضية، ارتفاعاً معتدلاً بلغ 18.7 في المئة خلال النصف الثاني. وباستثناء النصف الأول من السنة الماضية، يبدو أن العائدات من الأسواق النامية سليمة وتنافسية عموماً مع الأسواق الرائدة في دول مجلس التعاون الخليجي في السنوات الأخيرة. وفيما تستمر مؤشرات دول مجلس التعاون الخليجي بالارتفاع، يبدو أن أفضل أداء نصف سنوي لديها قد سبق وحصل ومن غير المرجح أن يتكرر ذلك قريباً. العوائق الاقتصادية وفيما الأخبار الاقتصادية إيجابية بشكل طاغ، ليست الشوارع معبّدة بالذهب بعد، وتظهر مؤشرات على مشكلات مع بروز تأثيرات أسعار العقارات المتصاعدة والتضخّم الأعلى والفوائد المتزايدة. ففي البحرين مثلاً، وهي عادة ودودة مع المستثمرين، دعت أقلية من المشرّعين الشعبيين إلى منع شراء الأراضي من قبل مواطنين ينتمون إلى دول أخرى من مجلس التعاون الخليجي للجم الارتفاعات المتزايدة أكثر مما ينبغي للمواطنين المحليين. وفي غضون ذلك، يشكّك بعض النواب في الكويت في حكمة تثبيت سعر عملة البلاد، فيما تبلغ تكاليف الاقتراض العالية هوامش الاستثمار وتؤذي الاقتصاد. لكن المشكلات الاقتصادية الأكثر إلحاحاً في الوقت الحالي ربما تبرز في دبي، حيث يعيث تضخّم أسعار الموجودات والمستهلك فساداً في التخطيط للموازنة واستراتيجيات الأعمال. ويقدر مصرف دبي الوطني كلفة المعيشة بنحو 20 في المئة في السنة الماضية بسبب ارتفاع الإيجارات وأسعار المحروقات، مقارنة بتقديرات البنك المركزي للتضخم البالغة ستة في المئة. وهذه البيئة التضخمية الثائرة وسط نمو متصاعد في كمية المال ومعدلات الفوائد السلبية على العقارات تحدّ من قيمة الدخل والادّخار وتعزز التشكيك وتجعل الحياة غريبة للجميع. وبغياب نظام سعر صرف ثابت، يتسبب تثبيت العملة بارتفاع كبير في التكاليف ويؤدي إلى خسارة الميزة التنافسية. وفيما تبدي دبي العوارض الأكثر حدة للنمو الزائد، تقوّض الكلفة المتزايدة في عوامل الإنتاج الأساسية الأراضي والعمال ورأس المال الإمكانات الاقتصادية الطويلة الأمد في المنطقة كلها. وتبرز الظروف الاقتصادية غير المتزنة صعوبات خطيرة للسلطات الإقليمية. ولم يتبيّن بعد إن كانت السلطات قامت بما يكفي لتفادي عسر الهضم بعد الوليمة الحالية. تخفيف المداخيل في السنة الماضية، ارتفع إجمالي الأرباح لأسهم"Shuaa Capital Arab Composite"49 في المئة مقارنة بالفترة السابقة، لكن مؤشرات متردّدة تظهر تباطؤاً في المداخيل التعاقبية مع خفض النمو في شكل ملحوظ. ومن المتوقع للأرباح نصف السنوية أن تنخفض بحدة عن معدل أعلى للنمو المحسوب على أساس سنوي بلغ 65 في المئة في النصف الأول من السنة الماضية و35 في المئة في النصف الثاني إلى 15 في المئة فقط في هذه السنة. وفي 20 تشرين الثاني نوفمبر، حذر الرئيس التنفيذي لشركة"سابك"محمد الماضي، من أن الأرباح في أكبر الشركات المدرجة في السوق المالية في دول مجلس التعاون الخليجي قد تخفض هذه السنة بسبب العرض الزائد. وبحسب ماضي،"بدأ الطلب على الكيماويات بالخفض بسبب لوائح الجرد المتضخمة"، وهو يتوقع"تراجعاً في الأسعار"، لكن المستثمرين لا يبدون متأثرين بارتفاع الأسهم خمسة في المئة منذ إدلائه بتعليقاته. غير عادية وغير متكررة ارتبطت نسبة كبيرة من إيرادات الشركات في دول مجلس التعاون الخليجي خلال الشهور الپ18 الماضية بأسعار الموجودات التي زادت ضعفين أو ثلاثة. وكانت أسعار المجودات المتزايدة عاملاً مهمّاً يغذي ثقة المستهلك التي أدت إلى اقتراض متزايد وإلى إنفاق أسري أعلى. ومن الصعب جداً تقويم المدى الذي حرّك فيه تأثير الثراء ازدهار استهلاك القطاع الخاص، لكنه من دون شك ساهم بشكل بارز في النمو في أرباح الشركات السنة الماضية. ومن غير المعروف إن كان من الممكن المحافظة على معدل الزيادة في الاستهلاك الخاص، لكن نظراً إلى الارتفاع الحاد في ديون الأسَر يبدو مرجحاً أنّ نمو قروض المستهلك سيتباطأ. وتبعاً لبنك الكويت الوطني، يتفرّع نحو ربع الإيرادات الحالية في الكويت من أرباح غير تشغيلية كالأرباح من بيع الأراضي أو إعادة تقويم أسهم مدرجة في السوق المالية. وقد ضخمت هذه النقاط غير العادية الإيرادات والتقويمات في شكل غير صحيح، ما أعطى رؤية مشوّهة عن النمو في الدخل التشغيلي التجاري. ففي يابان الثمانينات من القرن الفائت، كانت هذه الإيرادات غير العادية تسمى هندسة مالية أو"زايتك"مع استعمال الشركات تمويلاً ضئيلاً لتجميل أرباحها عبر التداول بالأسهم وبموجودات أخرى. وتعتبر ظاهرة الإيرادات المضخمة شائعة في المنطقة، لكن للأسف تتوافر تقديرات قليلة يمكن الاعتماد عليها، تشير إلى مساهمتها الإجمالية في الإيرادات المعلنة بسبب متطلبّات الإخبار المتساهلة في بعض المجالات. لكن قد لا يكون من الخطأ توسيع التقديرات للكويت والاعتقاد أن المدخول غير المتكرر يبلغ نحو ربع الإيرادات المعلنة كافة في المنطقة بأسرها. وما دام من غير المرجح أن تتكرر هذه الأرباح خصوصاً على المعدل نفسه، على الشركات العمل بجدّ للتعويض عن النقص المحتمل في مقارنات هذه النقاط غير المتكررة بين سنة وأخرى. وليس بعيداً احتمال أنّ يوازن الدخل غير التشغيلي المتدهور هذه السنة أرباحاً تشغيلية أعلى، ما يؤدي إلى أضعاف أعلى في نهاية السنة منه في بدايتها. كلفة الفرص المتزايدة يوحي أداء السوقين الماليتين في الدوحة والإمارات أن الصعوبات الاقتصادية وربحية الشركات المتباطئة بدأت تلقي بثقلها على التقويمات العالية. وفضلاً عن ذلك، لا ينحصر ركود الأسعار بالأسهم، ويمكن ملاحظته في كلّ أسواق الممتلكات الإقليمية التي خفضت أيضاً بعد تعديل ارتفاعي كبير في السنة الماضية. والواقع أن تطبيق مقاييس التقويم العالمية على أسواق دول مجلس التعاون الخليجي يوحي بأن تقويم الأسواق المالية الإقليمية يكون مفرطاً التقويم بأكثر من 300 بليون دولار، يمكن نسبة معظمها إلى السوق السعودية. وكلما طالت مدة ركود الأسواق وفشلها في تقديم عائدات عالية، يزداد احتمال فقدان المستثمرين لاسيما أولئك الذي يستخدمون النفوذ اهتمامهم وبحثهم عن استثمارات بديلة. والسيناريو الأكثر تفاؤلاً هو أن عدم اكتراث المستثمر بكلفة الفرصة لرأس المال قد يطيل عقلية الشراء في حالة الخفض، ويحافظ على الأسعار قرب مستوياتها الحالية طالما بقيت السيولة متوافرة. خلاصة يطلق اسم فقّاعة عادة على أي موجودات يرتفع سعرها بشكل كبير في فترة قصيرة من الزمن، لكنه، بدقة أكبر، وضع من أوضاع السوق أكثر منه نقطة تسعير محددة. وخلال السنوات القليلة الماضية، ارتفعت أسواق دول مجلس التعاون الخليجي سبعة أضعاف، لذلك كان تحديد المستويات الأعلى صعباً دائماً، خصوصاً أن الأسواق غير العقلانية لا تتجاوب من حيث المبدأ مع المنطق. وهناك شك في أن آلية الحسم في بعض الأسواق المحلية غير ناضجة نسبياً ويقيّدها غياب التوقّعات التي يمكن الاعتماد عليها والنشر الضعيف للتحاليل الأساسية. فضلاً عن ذلك، لن تلقى التحاليل آذاناً صاغية عندما تتعارض مع المصالح ومع منحى مربح في سوق سوابق حديثة لها عن خسارات كبيرة. لكن لا قيمة مضافة بتاتاً في احتلال المرتبة الأخيرة، لا سيما حين يؤكد مرور الوقت التطورات الاقتصادية والمالية المتوقعة. ومع ذلك وعلى رغم الاقتناع بالمحافظة على التسعير الأعلى، يقبل كاتب هذا المقال بتغيير رأيه إذا تغيّرت الظروف أو أكدت الأحداث عدم صحة هذا الموقف. * رئيس التسويق في فرع المؤسسات في"نامورا إنفستمنت بنكينغ"، البحرين.