عُنيت حكومات الدول الخليجية، وبعض الشركات، أو الأفراد بإصدار المجلات الشهرية الثقافية؛ للحاجة الماسة لها في وقت لم تعرف المجتمعات الثورة التقنية والإعلام الجديد. وقد أخذ الريادة والسبق الأستاذ عبدالقدّوس الأنصاري حينما أصدر مجلته "المنهل" عام 1937م، واستمرت في الصدور أكثر من ثمانين عامًا إذ توقفت في عام 2018م، ثم أصدرت شركة أرامكو مجلة قافلة الزيت عام 1953م، وتحولت بعد ذلك إلى "القافلة". وبعد سنوات قليلة أصدرت وزارة الإعلام في دولة الكويت "مجلة العربي" عام 1958م، تلاها "مجلة الدوحة" عام 1969م، ثم صدرت في المملكة العربية السعودية مجلتان شهريتان في وقت متقارب، وهما: المجلة العربية عام 1975م، ومجلة الفيصل في عام 1977م. كما صدرت بعد ذلك مجلات أخرى ثقافية في الخليج، من أهمها: البحرين الثقافية عام 1993م، ومجلة نزوى العُمانية عام 1994م، ودبي الثقافية عام 2004م، والشارقة الثقافية عام 2016م، وغيرها من المجلات. ونتوقف عند مجلة الفيصل موضوع هذا المقال، وعنوان المجلة مأخوذ من اسم الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله-، وهي مجلة ثقافية شهرية صدر عددها الأول في رجب 1397ه/ يونيو1977م، ومؤسسها هو صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، ولكن هذه المعلومة لم تظهر إلا في عام 1436ه/2015م، وصدرت المجلة عن دار الفيصل الثقافية التابعة لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ورأس تحريرها منذ العدد الأول الأديب علوي طه الصافي (1944-2022م) -رحمه الله-، واستمر رئيسًا للتحرير أربعة عشر عامًا (1977-1991م)، ثم خلفه في رئاسة التحرير الدكتور زيد بن عبدالمحسن الحسين في المدة من (1991-1998م)، ثم كُلف الدكتور يحيى بن محمود جنيد برئاسة التحرير في المدة من (1998-2013م)، ثم خلفه في رئاسة التحرير الأستاذ عبدالله بن يوسف الكويليت لمدة ثلاث سنوات تقريباً، وذلك في المدة من (2013-2015م)، ثم رأس تحريرها لمدة ثلاث سنوات أيضًا الأستاذ ماجد بن عبدالله الحجيلان (2015-2018م)، بعدها تولى رئاسة التحرير الدكتور هبّاس الحربي منذ فبراير عام 2018م وحتى اليوم. ولعلنا نتوقف عند العدد الأول الصادر في شهر رجب من عام 1397ه/ يونيو1977م إذ بلغت صفحات العدد مئة واثنتين وستين صفحة ملوّنة، وتصدرت العدد كلمة رئيس التحرير التي جاءت في صفحتين وبعنوان "هذه المجلة وصحافة العصر" شرح فيها أهداف المجلة ورؤاها وتطلعاتها، كما أقرت تحرير المجلة بعض الأبواب الثابتة التي استمرت سنوات، وأهمها: من كتّاب هذا العدد، ودائرة المعارف، ومسابقة المجلة، والحركة الثقافية في شهر، وكتب وردت للمجلة. والحق أن العصر الذهبي للمجلة هي المدة التي رأس فيها علوي الصافي تحرير المجلة، ومن أهم الأسباب: خبرته الصحفية الطويلة في مجلة اليمامة، وثقافته العالية، وحسه الوطني العالي، وارتباط اسمه مع الأعداد الأولى للمجلة، فكان أن بذل جهودًا كبيرة في سبيل أن تصبح المجلة مقروءة، وساعدت بعض الأبواب ومنها "مسابقة المجلة" على توزيعها داخل المملكة وخارجها، ومما يُحمد للصافي أنه استقطب عددًا من الأدباء السعوديين للكتابة فيها، ومما يمكن التمثيل به العدد الأول الذي نجد من بين كتّابه: عبدالقدوس الأنصاري، وأحمد عبدالغفور عطّار، ومحمد بن علي السنوسي، وعبدالعزيز الرفاعي، وأحمد محمد جمال، وعبدالله الجفري، وهو أمر افتقدناه في حاضر المجلة للأسف الشديد. كما استقطب بعض المثقفين للعمل في المجلة متعاونين لتحرير بعض الأبواب، أو إجراء بعض الحوارات الصحفية، ومن أهم الأسماء: إبراهيم مفتاح، وعبدالله ثقفان. وحينما صدر العدد رقم مئة (100) من المجلة في شهر شوال 1405ه (يوليو 1985م) وجدت أسرة التحرير أنها مناسبة تستحق الاحتفاء، فأعدت تقريرًا مفصّلاً في عشر صفحات ترصد فيه منجزات المجلة في ثماني سنوات تقريبًا بالأرقام بعنوان "الفيصل وحصاد 100 عدد"، وهي منجزات في غاية الأهمية وتدل على عمل صحفي منظّم، ويكفي أن نعرف أن المجلة نشرت عشرين استطلاعًا عن مدن المملكة المختلفة، كما نشرت خمسة وخمسين استطلاعًا عن مدن عربية، وعالجت في ندوتها الشهرية جملة من الموضوعات منها: أبناؤنا واللغة العربية، والأدب والتاريخ، وتراثنا المخطوط بين الجمع والتحقيق، والجوائز ودورها في الحركة العلمية والثقافية، وبلغت الحوارات مئة حوار بمعدل حوار في كل عدد، وبلغت اللقاءات مع الأدباء السعوديين سبعة عشر لقاءً، كما نشرت نصوصًا قصصية لكل من: أحمد السباعي، وعبدالله الجفري، وحسين علي حسين، وعمر طاهر زيلع، وغالب حمزة أبو الفرج، ومحمد علي قدس، وغيرهم. وحين تولى الدكتور زيد الحسين رئاسة التحرير تراجعت صفحات المجلة فأصبحت في حدود 120-130 صفحة، وأضيفت أبواب مهمة، أبرزها "من المكتبة السعودية"، وهي زاوية امتدت على مدى سنوات، ونهضت بمهمة التعريف بالكتب السعودية الجديدة، كما يسّرت دار الفيصل الثقافية الحصول على أعداد المجلة السابقة بتجليدها والإعلان عن بيعها للجمهور بأسعار مناسبة، وهو ما ظهر في أواخر الأعداد التي أشرف عليها الأستاذ علوي الصافي، وفي الأعداد الأولى التي تولى الدكتور زيد الحسين فيها رئاسة تحرير مجلة الفيصل. وبقيت المجلة محافظة على مقاسها وإخراجها حتى عام 2013م حينما تولى عبدالله الكويليت رئاسة التحرير إذ ظهرت بإخراج جديد ومقاس أكبر من السابق، ثم أصغر من السابق، ثم أصبح الصدور كل شهرين بدلاً من الصدور الشهري، وارتفعت الصفحات إلى أكثر من 180 صفحة، وبلغت الأعداد الصادرة منها حتى منتصف العام الجاري (2025م) نحو 600 عدد. ونظرًا لأهمية المواد المنشورة في المجلة على مدى نصف قرن فقد كانت موضوع دراسات عليا في الماجستير والدكتوراة في بعض الجامعات السعودية، وأنجزت عنها ثلاث رسائل، وهي: الشعر والقصة ونقدهما في مجلة الفيصل السعودية منذ نشأتها، لخديجة بنت علي بابيضان (1418ه/1997م)، ونقد الشعر في مجلة الفيصل الثقافية (1397-1412ه): قضايا ومناهج ومفاهيم، لعائشة بنت أحمد عسيري (1443ه/2022م)، واتجاهات القصة القصيرة في مجلة الفيصل، لهند بنت شديّد العنزي (1445ه/2023م). كما خصّصت دارة الملك عبدالعزيز للمجلة مدخلاً في عملها المهم "قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية، وتولى كتابته الدكتور حسن بن فهد الهويمل، ومما قال عنها: "حفلت أعدادها منذ صدورها بالكثير من الأسماء الأدبية والفكرية والعلمية اللامعة في الساحة الثقافية العربية وبالموضوعات المهمة على مختلف الصعد الثقافية والفكرية والأدبية، كما عنيت بأن تكون قناة للتواصل مع الحضارة الإنسانية بمختلف روافدها، وأعدادها حافلة بالدراسات والاستطلاعات المصوّرة عن المستجدات العلمية والمواقع الأثرية والعادات النادرة والإبداعات الشعرية والسردية لكل الأدباء والمفكرين والمبدعين العرب، ولقد اهتمت بإثراء المشهد العربي، من خلال ما يترجم من عيون الأدب والفكر والفن لدى شعوب العالم، إلى جانب قراءات نقدية مختصرة للإصدارات الحديثة وإتاحتها للقارئ، مع متابعة دقيقة للحركة الثقافية في الوطن العربي والعالم الإسلامي". وبقي الحديث عن صلتي الشخصية بالمجلة، فلقد صدرت أعدادها الأولى وأنا في المتوسطة، ثم تعرفت عليها أثناء الدراسة الجامعية قارئًا ومعجبًا بها، وارتبطت بها قارئًا حتى عام 1419ه/1998م حينما وصلتني دعوة من رئيس التحرير الدكتور يحيى بن جنيد، وطلب مني مقالة مطوّلة ومفصّلة عن الأديب حسين سرحان رحمه الله مع بعض الصور، فجهزتها وأرسلتها فنشرت، ثم راسلت المجلة في عام 1426ه/2006م، وأرسلت لهم مقالة عنوانها "الصالونات الثقافية في المملكة بين مرحلتين"، فنشرت، ثم انقطعت عن المجلة سنوات قارئًا وكاتبًا، وحين حاولت مراسلتهم قبل سنتين لم أجد تشجيعًا، فانصرفت. والحق أن المجلة في سنواتها الأخيرة أصبحت تستقطب الكتّاب العرب، وتجري حوارات مع الأدباء العرب، ولا نكاد نجد اهتمامًا بالأدب السعودي، أو الكاتب السعودي؛ فلعل رئيس التحرير الحالي الدكتور هبّاس الحربي يغيّر المسار، ويلتفت إلى أدب بلاده وأدباء بلاده، وأن يكثّف المراسلات معهم لاستقطابهم كما فعل رئيس التحرير الأول الأستاذ علوي الصافي -رحمه الله- الذي جاء في مرحلة صعبة، ولم يكن الأدباء السعوديون بهذا العدد الحالي، كما أن المراكز الثقافية والأندية الأدبية والجوائز وغيرها بحاجة إلى تقارير مطولة تكشف تاريخها وأدوارها. نريد أن تكون (مجلة الفيصل) وجميع المجلات الثقافية السعودية قوة ناعمة تنقل ثقافتنا وفكرنا، وتعرّف بمثقفينا وأدبائنا، وتنقل كل ذلك إلى القراء في العالم العربي، ومن المقترحات: التفاعل مع العام الثقافي السعودي الصيني (2025م)، وما يتعلق به مثل جائزة الأمير محمد بن سلمان للتعاون الثقافي، والتأريخ لمؤتمرات الأدباء السعوديين الخمسة، ونشر تقارير أو استطلاعات مصورة موسّعة عن الأندية الأدبية الستة عشر بمناسبة مرور نصف قرن على إنشاء أوائلها، ونشر سلسلة من المواد للتعريف بالصالونات الثقافية المنتشرة في مدن المملكة المختلفة، وإلقاء الضوء على المراكز الثقافية مثل: مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، والمعهد الملكي للفنون التقليدية (وِرث)، ومركز البحوث والتواصل المعرفي، ومركز عبدالرحمن السديري الثقافي، ومركز حمد الجاسر الثقافي، ومركز عبدالله بن إدريس الثقافي، ومركز آل زلفة الثقافي والحضاري، وقيصريّة الكتاب، وإلقاء الضوء على الكراسي الثقافية والجمعيات التابعة للجامعات مثل: كرسي الأدب السعودي، وكرسي غازي القصيبي للدراسات التنموية والثقافية، وكرسي عبدالعزيز المانع، وجمعية الأدب العربي، والجمعية العلمية السعودية للغة العربية، والجمعية السعودية للأدب المقارن، ودعم الكيانات الثقافية الجديدة مثل: جمعية الأدب والأدباء في المدينةالمنورة، وجمعية الأدب المهنية، وجمعية أدب الطفل وثقافته، وجمعية آداب وفنون السرد، وجمعية الضاد، وحراك الشريك الأدبي. كما أن وجود لقاء في كل عدد مع شخصية أدبية ثقافية سعودية مطلب ملح، والأسماء كثيرة جدًا وفي كل مناطق المملكة، ولدينا أساتذة جامعيون، وشعراء، ومسرحيون، ونقاد، وروائيون، وقصاصون، ومقاليون، ومثقفون، ورؤساء أندية أدبية أو مراكز ثقافية. وبالنظر إلى آخر عدد صدر من المجلة (مارس وأبريل 2025م)، ويقع في (188 صفحة) نجد فيه تقريرًا عن المشهد الثقافي السعودي، ومقالات لأربعة من الكتّاب السعوديين، في حين خُصصت بقية صفحات المجلة للأدباء والكتّاب العرب، ومعنى ذلك أن الحركة الثقافية في المملكة ظفرت بربع المجلة تقريبًا، في حين ظفر الإخوة العرب بثلاثة أرباع المجلة، والمنطق هو العكس. وختامًا: أعتز بامتلاك الأعداد الذهبية الأولى (1397-1412ه) من مجلة الفيصل، ولدي أعداد لاحقة ولكنها غير منتظمة وغير مجلّدة. * أستاذ الأدب والنقد بجامعة الإمام سابقًا د. هبّاس الحربي علوي الصافي د. عبدالله الحيدري