فضّل الله الإنسان على غيره من المخلوقات بنعمة العقل، وكلّفه بالعبادة، وأمره بالتفكّر والتدبّر والتعقّل، فمن خلال العقل يُمكن للإنسان تمييز الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، فيسعى لما فيه المصلحة والسلامة، ويتجنّب كل ما يُسبّب له ولغيره الضرر، وقد نهى المصطفى صلى الله عليه وسلم عن التقليد الأعمى للآخرين، ومتابعتهم في أفعالهم وأقوالهم بدون التأكّد من صحتها وسلامتها، وبدون النظر لأسبابها وعواقبها، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تكونوا إمّعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا"، فمن الحديث الشريف نجد أنّ الاقتداء بالأفعال الحسنة من الأعمال المحمودة، يقول أبو العيناء: "إذا أعجبتك خصالُ امرئ .. فكنْه يكن مثل ما يُعجبك"، أمّا التقليد الأعمى بدون التأكّد من السلامة والصحّة، وبدون تفكير واستقلالية، وعدم النظر للأسباب والعواقب، فهو المنهي عنه، وهو ما أطلق عليه العالم البريطاني هاملتون "سلوك القطيع"، وهو سلوك فيه امتهان للكرامة الإنسانية، حيث يبدأ غالباً ببث الرعب في الشخص وتخويفه، ثم التحكّم به وتسييره، وقد اتصف المشركون بالتقليد الأعمى لأسلافهم؛ وذمّهم الله عزّ وجل في مُحكم كتابه العزيز بقوله في سورة البقرة: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ"، وقال سبحانه وتعالى في سورة الصافات: "إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ". والمُلاحظ أن غالب من يقوم بالتقليد الأعمى للآخرين هو من يشعر بالدونيّة، ويخشى الانتقاد، فلا يُمكنه التعبير عن الرأي أو اتخاذ القرار، ولا يستطيع تحمّل المسؤولية، كما أنّ فكرة العزلة والوحدة تبثّ الرعب فيه، فيبحث عن الأمان بتقليد الآخرين ومسايرتهم والانضمام لهم، وقد ذكر ابن خلدون بأنّها: "صفة للمغلوب الذي يُقلّد الغالب لاعتقاده بكماله"، فيصبح بذلك فريسة سهلة للآخرين، يتحكّمون فيه، ويفكّرون ويتخذون القرارات نيابة عنه، ويتحدّثون باسمه، ويستغلّونه لتحقيق أهدافهم ومآربهم، وتلّقي الصدمات نيابة عنهم، وقد نصح الطغرائي من ينطبق عليه ذلك بقوله: "قد رشّحوك لأمرٍ لو فطِنت له .. فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ"، لكن؛ وكما قال الفيلسوف الألماني نيتشه: "وأنت تخوض حرباً للتحرر من قطيع، احذر من الانضمام لقطيع آخر دون أن تشعر"، اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.