شاءت الصدفة أن أكون أقرأ رواية بعنوان"المؤامرة على أميركا"، من تأليف فيليب روث، عندما وقعت على مقال في مجلة"فورين بوليسي"عنوانه"عالم من دون اسرائيل"كتبه جوزف جوف. الرواية والمقال يلتقيان عند أدب"ماذا لو..."ويفترقان بعد ذلك. روث يرسم صورة راعبة لما كان يمكن أن يصير، ففي حزيران يونيو 1940 يختار الحزب الجمهوري مرشحاً عنه للرئاسة تشارلز لندبرغ بطل الطيران المشهور الذي عبر المحيط الأطلسي وحيداً سنة 1927، وهو يهزم الرئيس فرانكلن روزفلت بسهولة في حملة جعل الانعزالي لندبرغ شعارها"خياركم سهل: لندبرغ أو الحرب". لندبرغ الأصلي معروف بسياسته الممالئة للنازيين، ولكن سمعته كبطل شعبي غلبت سمعته اللاسامية. وفي الرواية يجعل روث لندبرغ يتهم اليهود الأميركيين، في خطاب له عبر الراديو، بأنهم أنانيون يسعون لدفع الولاياتالمتحدة نحو حرب مع ألمانيا النازية لا مبرر أميركياً لها. وبعد أن يفوز بالانتخابات بغالبية كبيرة يعقد معاهدة"تفاهم"مع أدولف هتلر، ولا يبدو ان سياسة هذا اللاسامية وجرائمه ضد اليهود في أوروبا تزعج الرئيس الجديد. ثمة رأي هو أن الرواية الخيالية، مهما شط بها الخيال، تظل تحمل بعض السيرة الذاتية في صفحاتها، ورواية روث التي يرويها على لسانه، تصور ما تعرضت له أسرة المؤلف من صعوبات في نيوآرك، وشبح اللاسامية يخيف اليهود الأميركيين كلهم. ماذا لو... قرأت مرة رواية تتخيل ان هتلر فاز بالحرب العالمية الثانية، إلا ان الألمان المثقفين لا يتحملونه طويلاً، فيسقط في انقلاب عسكري في الخمسينات، وأسأل بدوري: ماذا لو فاز صدام حسين بالحرب الأخيرة؟ روث روائي كبير فاز بجوائز عدة، إلا انني وجدت روايته صعبة التصديق، وهو يصور المجتمع الأميركي ينحدر تدريجاً نحو العنصرية، ويحاول أن ينقي صفوفه من عناصر ليست من الجنس الآري، وربما كان هذا ممكناً في المانيا في الثلاثينات، والناس هناك كلهم تقريباً ألمان، ومن أصل اثني واحد، غير ان أميركا بوتقة، والأميركيون من أصول كثيرة، على رغم غلبة البيض الأوروبيين، ولا أتصور انهم في الأربعينات أو أي عقد آخر كانوا سيتحدثون عن النقاء الجنسي كما تحدث عنه هتلر في ألمانيا. كنت بدأت أقرأ بسرعة، وأتجاوز بعض الصفحات عندما وقعت على مقال جوزف جوف، فقد لفتني عنوانه عن عالم من دون اسرائيل. ووجدت ان الكاتب وقح من مستوى ليكودي، فهو في السطور الأولى من مقاله يسأل ويجيب: تصوروا ان اسرائيل لم تقم أبداً. هل البلاء الاقتصادي والقمع السياسي اللذان يدفعان شباباً غاضبين للقيام بعمليات انتحارية يزولان؟ هل تقوم للفلسطينيين دولة مستقلة؟ هل الولاياتالمتحدة، بعيداً من حليفتها المزعجة، ستصبح فوراً محبوبة في العالم الإسلامي؟ هذا مجرد تمنيات أضغاث أحلام فبدلاً من التسبب في التوتر إسرائيل تمنع العداء ولا تزيده. طبعاً هذا كذب مطلق، قياماً وقعوداً، وجوف يكمل بأن الإعجاب بإسرائيل بعد تأسيسها تحول الى محاولات لإزالة شرعيتها، وأصبح الحديث عن الذنب الاسرائيلي الذي يهز الكلب الأميركي، وعن نفوذ"اللوبي اليهودي"وعصابة المحافظين الجدد التي خطفت السياسة الخارجية الأميركية وخدعت إدارة بوش لتنتهج سياسة تؤذي المصالح القومية الأميركية. كل هذا صحيح وجوزف جوف وبقية عصابة المحافظين الجدد يستطيعون ان يكذبوا وينفوا حتى تجمد جهنم، أو تعود البقرات الى بيتها كما تقول عبارتان بالانكليزية إلا انهم لن يغيروا حقائق قاطعة أكيدة ثابتة. الكاتب يطلب تخيل عالم من دون اسرائيل، واذا تخيلت هذا العالم فإنني أتخيل ان مئة ألف فلسطيني، ومئة ألف عربي آخر، والمتحدرين منهم، احياء لم يقتلوا دفاعاً عن فلسطين. أما عن البلاء الاقتصادي والقمع السياسي، فإنني أتصور انهما اذا لم يقوما أصلاً فهما سيكونان موجودين بنسبة بسيطة، من نوع ما يوجد في أي بلد آخر. اسرائيل هي الشماعة التي علق عليها كل انقلابي عربي وديكتاتور ما ارتكب بحق شعبه وأمته. ولماذا كان هذا الحاكم سيصل الى الحكم أصلاً لولا قيام اسرائيل، واتهام حكومات 1948 بالمسؤولية عن النكبة؟ أيضاً لولا وجود اسرائيل كيف كان الحاكم سيبرر الانفاق العسكري الهائل الذي دفع العرب ثمنه عداً ونقداً فيما اسرائيل تتلقى مساعدات عسكرية واقتصادية وسياسية أميركية تتحول بعد ذلك الى هبات فيدفع المكلف الأميركي نفقات دولة عسكرية توسعية، تضر بالمصالح الأميركية كل يوم. ولكن يحميها نفوذ اللوبي، والآن عصابة المحافظين الجدد التي سأصدق انها غير موجودة اذا اثبت الكاتب ان بول وولفوفيتز وريتشارد بيرل ودوغلاس فايث وجون بولتون وديفيد وورمزر وغيرهم كثيرين غير موجودين، وإنما هم مجرد اشاعة عن نفوذ الليكوديين الشارونيين في الادارة. والرد الوحيد على السؤال: هل تصبح اميركا محبوبة؟ هو نعم قاطعة. وأنا من عمر أذكر معه أيام كانت أميركا محبوبة، خصوصاً بعد ان وقف الرئيس ايزنهاور ضد العدوان الثلاثي سنة 1956، فلم تحل سنة 1958 حتى وقعت الثورة في العراق التي أطاحت الملكية، وردت الولاياتالمتحدة بانزال بحري كبير في لبنان، فكان البحارة الأميركيون يتجولون بحرية في بيروت، وبلدات الساحل اللبناني. وهم دخلوا بيوتنا ورحبنا بهم. وهل يجرؤ بحار اميركي في ملابسه العسكرية وبشعره القصير ان يتجول في أي شارع عربي اليوم. العلاقة مع الولاياتالمتحدة ساءت تدريجاً مع ازدياد التأييد الأميركي لاسرائيل الذي كان طعنة في صدر كل عربي ومسلم وظهره. وكل فجور جوزف جوف لن يغير من هذه الحقيقة شيئاً فالشهود عليها أحياء. شخصياً لا أدعو الى زوال اسرائيل ولا أتمنى موت أحد، اسرائيلي أو فلسطيني أو أي انسان، وإنما أقول ان حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً سينهي معظم اسباب الخلاف مع الولاياتالمتحدة، ويحل معظم المشكلات التي نجمت عن نجاسة الاسرائيليين في الادارة الاميركية وحولها، ونحن لم نعرف أي انتحاريين قبل الاحتلال وقسوته وجرائمه. وكل حديث غير ذلك حديث خرافة.