بناء على توجيه خادم الحرمين .. ولي العهد غادر لترؤس وفد المملكة المشارك في اجتماع مجلس الجامعة العربية في البحرين    «الأرصاد»: رياح شديدة السرعة على عددٍ من محافظات منطقة مكة المكرمة    أمير المدينة يرعى تخريج البرامج الصحية ويترأس اجتماع المحافظين    أمير تبوك: ليالي الحصاد والتخرج هي من أسعد الليالي التي احضرها لتخريج أبنائي وبناتي    مدرب الأهلي يخضع فيغا لاختبارات فنية تأهباً ل"أبها"    خارطة طريق سعودية – أمريكية للتعاون بالطاقة النووية    أمطار على أجزاء من 6 مناطق    150 مبتكراً ومبتكرة يتنافسون في الرياض    أوشحة الخيل.. تنافس على إرث ثقافي سعودي    ارتفاع معدل البطالة في استراليا إلى 4.1% في شهر أبريل الماضي    النفط يرتفع بدعم من قوة الطلب وبيانات التضخم الأمريكية    إطلاق جامعة طيبة لمعرض "مكين" الهندسي    سمو محافظ الطائف يرعى حفل افتتاح المجمع القرآني التعليمي النسائي    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    «عكاظ» تنشر الترتيبات التنظيمية للهيئة السعودية للمياه    برعاية ولي العهد.. انطلاق الملتقى العربي لمكافحة الفساد والتحريات المالية    الأهلي يتحدى الهلال والاتحاد يبحث عن «النصر»    الاتحاد في مأزق الخليج.. نقاط الأمان تشعل مواجهة الوحدة والرائد    قمة عادية.. في ظرف استثنائي    صفُّ الواهمين    «الصحة» تدعو حجاج الداخل لاستكمال جرعات التطعيمات    71 فناناً وفنانة في معرض «كروما» بجدة    حل وسط مع الوزراء !    محاولة يائسة لاغتيال الشخصية السعودية !    نريدها قمة القرارات لا التوصيات    مخاطر الألعاب الإلكترونية على الأمن المجتمعي    «هاتريك» غريزمان تقود أتلتيكو مدريد للفوز على خيتافي في الدوري الإسباني    في قمة مواجهات الجولة 32 من «روشن».. ديربي الرياض بروفة نارية لنهائي كأس الملك    توثيق من نوع آخر    «حلبة النار»… النزال الأهم في تاريخ الملاكمة    خادم الحرمين الشريفين يصدر عددا من الأوامر الملكية    السفير الإيراني يزور «الرياض»    السلطات الفرنسية تطارد «الذبابة»    تعزيز التعاون العدلي مع فرنسا وأستراليا    باكوبن والدقيل يزفون المهندس محمد    عبدالملك الزهراني ينال البكالوريوس    بوتين يصل إلى الصين في زيارة «دولة» تستمر يومين    استمرار الجسر الجوي الإغاثي إلى غزة    «الحر» يقتل 150 ألف شخص سنوياً    دعوة عربية لمجلس الأمن باتخاد إجراءات سريعة توقف العدوان الإسرائيلي    شتلات شارع الفن    معرض"سيريدو العقاري"أحدث المشاريع السكنية للمواطنين    إنتاج الصقور في الحدود الشمالية    "الدرعية" تُعزز شراكاتها الاقتصادية والسياحية    وزير الاستثمار: الاقتصاد السعودي الأسرع نموا وجاذبية    طريق الأمير محمد بن سلمان.. أهم مسار لتنقل الحجاج    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    سقيا الحاج    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    « سعود الطبية»: زراعة PEEK لمريض عانى من كسور الجبهة    لقاح جديد ضد حمى الضنك    مختصون يدعون للحدّ من مخاطر المنصّات وتقوية الثقة في النفس.. المقارنة بمشاهيرالتواصل الاجتماعي معركة خاسرة    5 منافذ في الشرقية تستعد لاستقبال الحجاج    المزروع يشكر القيادة بمناسبة ترقيته للمرتبة 14    وزير العدل يلتقي رئيس المجلس الدستوري في فرنسا    وزير الحرس الوطني يرعى تخريج 2374 طالباً وطالبة من «كاساو»    نائب أمير مكة يستقبل عدد من اصحاب السمو والمعالي والفضيله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السياسي الأميركي الذي نهض علماً على انعطاف كبير في السياسات الدولية استغلقت "تاريخيته" على ثقافتنا . رونالد ريغان ولد من الثقافة الديموقراطية الجماهيرية والتقاليد السياسية أثناء الحرب الباردة
نشر في الحياة يوم 22 - 06 - 2004

الأرجح أنه عسير على كثرة منا القبول بصفة الكبر التي يطلقها سياسيون ومعلقون غربيون على الرئيس الأميركي الأربعين، رونالد ريغان 1911 - 2004. فيقولون انه كان "رئيساً كبيراً" للولايات المتحدة الأميركية، أو "رئيساً عظيماًَ". ففي ميزاننا، أو في "ملتنا واعتقادنا" على قول المعري، يفترض الجمع بين الرئاسة والعظمة في المرء الواحد إدلاله على الناس بقسمات القيادة أو البطولة وملامحهما. ومن هذه الملامح، على أضعف تقدير، الصرامة والقسوة والقلق على مصائر الأمة، بديهة والتفكير العميق والبعيد والإلهام. ويبعد أن تظهر هذه على وجه ممثل سينمائي أو معلق تلفزيوني قبل عهد الفضائيات العربية بلغ سن التقاعد من العمل، على ما كانت حال الرئيس الراحل حين ترشح الى رئاسة الجمهورية في 1980. فانتخب لولايته الأولى وهو في السبعين تقريباً، أي في السن التي تقاعد فيها دوايت ايزنهاور الرئيس الأميركي الرابع والثلاثون، وترك منصب الرئاسة بعد ولايتين، في 1960. فكان الراحل أسن رئيس حمله الناخبون الى الرئاسة الأميركية في أثناء القرنين الأميركيين وربع القرن.
وعلى خلاف قسمات القيادة ولبوسها كان الرئيس الراحل - في أعقاب عشرة أعوام تامة من غياب الذاكرة عن التذكر ما خلا بعض الألوان وأعمال انقاذ من الغرق قام بها وهو شاب يافع على ضفتي نهر روك بولاية ايلينوي كان يطل على الجمهور الأميركي مازحاً، ضاحكاً، يروي النكات، ويتعمد الإضحاك من غير تهكم أو سخرية جارحة، ويسبق الجمهور الى القهقهة. وإذا خطب، وكانت خطبه كلها يتولى كتابتها مستشارون محترفون، نسج على منوال حماسي معروف، سبقه اليه وعّاظ التلفزة والشاشة الجماهيريون، واجتهد هو في محاكاته والاحتذاء عليه. وأشهر جمله وعباراته، مثل "امبراطورية الشر" 1983 في الاتحاد السوفياتي أو مثل قوله: "أردنا تغيير أمة فغيرنا العالم" 1994، رسالة الوداع، انما هو ترديد لصور خطابة دينية وشعبية تمت الى الأسواق الموسمية فوق ما تمت الى حلبة العلاقات وميادينها ومسارحها المعبدة بالرؤوس والصواريخ النووية.
وفي حسباننا أن من ينزلون الضربات القاضية بالامبراطوريات والسلطنات، ويطوون صفحات التاريخ، ويهزمون الجبابرة والقياصرة والفراعنة، ينبغي أن يكونوا على شاكلة لينين، فكراً ثاقباً أو ستالين، إرادة فولاذية، أو هتلر، إقداماً وحسماً، أو خميني، فقهاً وصلابة وتحدياً. وبالكاد كان ريغان قارئ "كوميكس" أي القصص الضاحكة المصورة. وكان يخلط بين ثاني أوكسيد الكربون وأوله فيحسب أن الأشجار تلوث الهواء، شأن الصناعات التعدينية. ويزعم أحد كتّاب سيرته أن من بيده شفرات السلاح النووي الأميركي، أي الرئيس، ويملك وحده الأمر بإطلاق الجحيم من عقاله، كان يحدث كولن باول، الجنرال الشاب ومستشار الأمن القومي يومها، في "الرجال الصغار الخضر" الذين يتربصون بالبشر الشر ويرابطون في الفضاء، ويعدون العدة لاجتياح الأرض.
وبينما كان غريمه في الوقت الأول من حكمه، ميخائيل غورباتشوف، ثم شريكه في التوقيع على معاهدتي نزع الصواريخ المتوسطة القارية 1987 و"ستارت" التي قيدت السلاح الاستراتيجي 1988، يقدم آراءه في علاج الامبراطورية المتداعية استبداداً وهراءً قاتلاً، في صيغة "فكر لعصرنا"، على ما وسم كتابه في الهيكلة "بيريسترويكا"، كان ريغان يعاني شكوك بعض أقرب أعوانه في سلامة قدراته الذهنية، غداة أزمة "ايران - كونتراس" 1986. ويرجح بعض المراقبين والمؤرخين أن موظفين من رتب متوسطة أو دنيا شبَّهوا على الرئيس جواز انتهاك قرار صريح للكونغرس الأميركي يحظر مد المعارضة في نيكاراغوا بالسلاح والمال، شريطة أن يباع السلاح سراً من ايران الخمينية!
ولا ريب في أن ما ينتقص من قيادة ريغان، ويطعن في "تاريخيتها" على ما يقول معظمنا في بعض رئاسات الاستيلاء والانقلاب، هو إسهامه في تقويض امبراطورية تصدرت، فوق ثلث القرن، لائحة أصدق "أصدقائنا"، وأخلص مساندي "نضالاتنا"، على زعم أيتام لا عزاء لهم بعد أفول سندهم. وهؤلاء إذ ينعون على الرئيس الراحل فعلته هذه، لا يرون فرقاً بينه وبين غيره من رئاسات الظلم الرأسمالي والاستكبار العالمي. وعليه، ليس ثمة ما "يحتفل" به في مناسبة وفاة ريغان. وليس هو من عجل في تصديه الامبراطورية السوفياتية. ولا سياسة له يستحق الرجل أن تنسب اليه، وتدعو الى الاستعادة والتأريخ أو الى النظر.
فالرجل وسيلة ضعيفة توسلت بها قوى عمياء وباغية الى منافسة قوة باغية أو عادلة أخرى. والاستعادة والنظر والتأريخ هي من قبيل "الدخول في اللعبة"، على قول سائر، وفي ما لا شأن "لنا" فيه. فالبطل النقيض، إذا كان لا مناص من حمل ريغان أو غيره على "البطولة"، هو نظير البطل الحقيقي، "بطلنا"، لا علة له ولا "لماذا". فهو انبجاس، على مذهب زكي الأرسوزي وتلامذته، أو تجسيد. والسياسة على المعنى "الغربي"، وعواملها، في هذا المعرض، إلهاء وتحريف.
"الإدارة" والضعف الديموقراطي
والحق أن ريغان مثال على نحو السياسة الديموقراطي. فمن مباني هذا النحو الأولى ربما "ضعف" السياسة الديموقراطية والسياسيين الديموقراطيين. فالرئيس الأميركي، وهو ينتخب من الولايات الخمسين ويحول انتخابه سكان الولايات الأميركية مجتمعين شعباً سياسياً واحداً وماثلاً ليوم واحد، يتمتع هذا الرئيس بسلطات تعيين وانفاذ وأمر عظيمة، على رغم قيود مجلسي الكونغرس التشريعية والرقابية على سلطاته. ولكن سلطات الرئيس رهن أو رهينة الجماعات الناخبة - المتكتلة في جمعيات وكنائس واتحادات ونقابات ووسائل إعلام واتصالات كثيرة - الحزبية وغير الحزبية، أولاً. وهي رهن كتل الشيوخ والنواب. وهؤلاء بدورهم تتنازعهم على الدوام "جماعات الضغط"، ثانياً.
فلا يحكم الرئيس، والحال هذه، إلا بالموازنة الدؤوبة واليومية بين الكتل والجماعات والتيارات المتفرقة. وهذه ليست ثابتة، على رغم ثبات نواة حزبية صلبة تقسم الأميركيين ديموقراطيين وجمهوريين قسمة قوية ومتساوية، منذ قرن ونصف القرن. وتميل الدفة الانتخابية الى هذا الحزب أو ذاك، والى هذا الوجه من وجوه الحزب الواحد أو ذلك بحسب مصدره الجغرافي ووسمه الاجتماعي وخطابه، مع ظهور مشكلات أو مسائل جديدة، أو مع استنفاد معالجات سابقة اختبرت. وعلى الرئيس العتيد، وهو بعد مرشح يتدرج في معارج المؤتمرات المحلية والانتخابات التمهيدية في الولايات قبل انعقاد المؤتمر الوطني، أن يجلو هذه الدوامة المضطربة، وروافدها التي لا تحصى، "برنامجاً" مقرؤ الخطوط والرسوم لعيون وأفهام متجاذبة وحائرة.
وليس هذا في مستطاع من لا سند له من "إدارة" ظل تحوطه قبل ترؤسه، ثم رئيساً. ولعل انفراد الديموقراطية الأميركية بنسبة الرئيس الى ادارة، ونسبة الإدارة الى رئيس، قرينة على محل الرئاسة من الروافد الكثيرة التي تلتقي عندها، وتنعقد موازنتها عليها. وتحفل أخبار الرؤساء والمرشحين بدينهم بخبرائهم ومستشاريهم ووزرائهم وقضاتهم ومساعدي وزرائهم وبعض كبار سفرائهم ومديري حملات انتخابية والى حكام الولايات، الى أصدقاء وأصحاب ورجال أعمال مرموقين وسيدات مجالس مثل سفيرة كلينتون الأولى بباريس ومراكز أبحاث، الخ. ويحتاج الرئيس، وهو وسط ادارته مثل العنكبوت التي تنسج خيوط شبكتها من لعابها ولكنها لا تأمن السقوط والجوع إلا جراء خيوطها المتينة، الى ادارةٍ على هذه الشاكلة تصل بينه وبين دوائر العمران كلها، وتتمتع بالموارد التقنية "المحايدة"، وبالولاء السياسي معاً وممازحة ريغان الأطباء الذين تولوا اسعافه في الدقائق الأولى التي أعقبت اطلاق جون هينكلي النار عليه في آذار مارس 1981، بقوله لهم: "قولوا لي رجاءً أنكم كلكم جمهوريون"، هذه الممازحة صورة عن الرغبة في الجمع المستحيل بين وجهي الإدارة الرئاسية.
ولم يشذ ريغان عن مثال السياسة الديموقراطي والأميركي هذا. فهو نتاج هذا المثال وثقافته أكثر من غيره من الرؤساء الذين سبقوه على شاكلة جون كينيدي أو جاؤوا بعده بوش الابن. وكان ابتداء مسيره الى الترشح للرئاسة، ثم فوزه بها، ميله الى اليمين الجمهوري وهو الديموقراطي الهوى المعتدل في أثناء الحرب الثانية وغداتها في 1964، ومساندته ترشيح الجمهوريين "الشيخ" باري غولدووتر الى منافسة ليندون جونسون، نائب كينيدي وخلفه بعد اغتياله في خريف 1963، على الولاية الرئاسية. ودعي ريغان، وهو لم يكن يومها إلا النجم السابق 1962 لبرنامج تلفزيوني مسرحي تموله كبرى الشركات الصناعية "جنرال الكتريك"، الى القاء خطبة تؤيد داعية استعمال السلاح الذري في الحروب المحلية التي تنفخ فيها الشيوعية السوفياتية وتؤججها، وعدو الحكومة الفيديرالية وبيروقراطيتها الثقيلة، المتهمة بتبديد ضرائب المواطنين المكدين والمجدين على البطالين والكسالى والملونون "نخبتهم" مبذري نفقات الضمان والرعاية على مخدرات الكيف و"أولاد الزنا".
وهزم الناخبون المرشح اليميني المتطرف داخلاً في السياسة الداخلية، الضريبية أولاً وخارجاً في سياسة صد الشيوعية، وحملوا الى الرئاسة صاحب خطة "المجتمع الكبير" الساعي في تعجيل دمج الفقراء والملونين في الطبقة المتوسطة العريضة، وارث ليبرالية كينيدي، من وجه، والمتورط في الحرب الفييتنامية تدريجاً، من وجه آخر. ولم يكن إسهام المعلق الإذاعي، فالممثل السينمائي "إيرول فلين - نجم - أشرطة الدرجة الثانية" على قوله في نفسه ساخراً فالنجم التلفزيوني، في الحملة الانتخابية الرئاسية من باب الدعاوة والخطابة والترويج، باكورة عمله "السياسي" على معنى أميركي أوسع من احتراف التكليف.
فكان رئيساً لنقابة الممثلين السينمائيين المحترفين بهوليوود طوال عقد من السنين. وزاول المفاوضات المهنية، المالية والقانونية، الطويلة والمعقدة مع ممثلي أصحاب العمل ووزارة العمل والمصارف وصناديق التأمين، في الأثناء. وخبر الفرق، بحسب تقليد وطني حقوقي راسخ. بين الموقف المعلن، حين الدخول الى قاعة المفاوضة، وبين المتاح فعلاً والمولود، من مخاض المداولة التقنية والمسرحية بين أطراف كثر وانتبه غورباتشوف الشيوعي المتحفظ الذي كانت أجهزة دعاوته تنعت ريغان ب"الكاوبوي المجنون"، وب"هتلر"، الى احتراف ريغان المفاوضة منذ لقائهما الأول بجنيف، في 1985.
واستقبل، بعد سنتين من هزيمة المرشح العاثر، مرحلة سياسية ثانية. فخطب في 1966 أصوات ناخبي كاليفورنيا الى منصب الحاكم. وهو مرتبة تمهيدية من مراتب طلب الولاية السياسية. وكان سنده جماعة من أصحاب المال المحليين. ففاز على حاكم ديموقراطي راسخ في الولاية، وأحد أعيان الحزب المنافس. وتنبهت بعض الصحف الكبيرة الى معنى انتصار ريغان، الجنوبي المحافظ و"الثرثار" دوره في أحد أبرز أفلامه، على الحاكم السابق، بينما أميركا الديموقراطية والليبرالية "في أزمة" وتتعثر على جبهتي السياسة. فآذن انتصار ريغان في احدى الولايات الكبيرة بانتصار نيكسون، في 1968، لولايتين اختصرت الثانية فضيحة "ووترغيت" فاستقال نيكسون وحل جيرالد فورد نائبه، محله، ثم لولايتي ريغان وولاية نائبه جورج بوش الأب. فكان تعاقب الولايات هذه، وقطعها كارتر في 1975 - 1980، أحد أطول العهود الحزبية في السياسة الأميركية.
السياسات "الريغانية"... وخلافها
وهذا قرينة على خروج الرجل من تيار اجتماعي وسياسي ثقافي بعيد الغور. فذهبت "نيوزويك" في 1967، شأن "تايم" في الوقت نفسه، الى ربط تعاظم التيار السياسي المحافظ هذا بتنامي قوة المحافظين من سكان الضواحي. وهؤلاء مزيج من المزارعين، كبارهم وأوساطهم متوسطيهم، الذين يتصدر منازعهم ورغباتهم تخفيض الضرائب على صادراتهم، ومنافسة أقرانهم الأوروبيين المحظيين بدعم حكومي مزمن، وفتح أسواق البلدان الشيوعية بوجه نتاجهم وهم أشد مناهضي الشيوعية ضراوة. ومزيج من المسيحيين الانجيليين المتطلعين دوماً الى الاضطلاع بدور راجح في خلاص البشرية، وهم يحسبونه وشيكاً، ومن شطر من ديموقراطيي ولايات الجنوب الذين امتحنهم شيوع ثقافة الشباب "الإباحية" إبان ستينات القرن الماضي في صفوف أهل المدن الديموقراطية الاقتراع، ولاءهم التقليدي امتحاناً عسيراً.
وهزم المرشح الديموقراطي جيمي كارتر، المؤمن المسيحي "المولود من جديد" والجنوبي والمزارع المتوسط، جيرالد فورد، نائب نيكسون المستقيل، وخلفه على الرئاسة. وكان ريغان، صاحب الحظوة في الجماعات والتيارات المسيحية الإحيائية شأن كارتر، قادراً على الفوز على المنافس الديموقراطي في الولايات الوسط التي أحجمت عن الاقتراع لفورد، لولا أن التقليد السياسي والجهازي يقضي بتقديم الرئيس المرشح الى ولاية ثانية على منافسه الحزبي، في الأحوال كلها.
ولكن الفوز الديموقراطي أرجأ "صعود" ريغان مدة ولاية واحدة ملأتها ظاهراً عثرات السياسة الأميركية. فالنفقات الفيديرالية المتراكمة بلغت، في الولايات المتحدة الأميركية وبلدان السوق الأوروبية المشتركة يومها على حد واحد، ذروة نجمت عنها "أزمة دولة الرعاية". وأثقلت تكلفة الانتاج على كاهل الشركات على نحو قيد قدرتها على المنافسة والريادة التقنية والاستثمار فيها، وعلى الاستخدام والتوظيف تالياً. وعلى رغم مؤتمر الأمن والتعاون بأوروبا، واتفاق هلسنكي 1976 الذي حمل الأنظمة الشيوعية على بعض الليونة في مسائل حرية الانتقال والاتصال، أظهرت الانقلابات "اليسارية" في البرتغال وأثيوبيا وأفغانستان، ثم استيلاء الخميني على ايران، واضطراب الشرق الأوسط كله، من تركيا الى السودان، أمارات الضعف على السياسات الأوروبية الأميركية. وتهدد نشر الاتحاد السوفياتي صواريخ متوسطة قارية، تحمل رؤوساً نووية، موازنة القوى في قلب أوراسيا، مدار المنازعة الاستراتيجية والتاريخية وبيضة قبانها، بحسب مستشار كارتر للأمن القومي.
فلما ارتقى ريغان الرئاسة، وهو في الهزيع الأخير من حياته العامة و"العاملة" أو النشطة، كان تخلَّق بخلق الثقافة السياسية الأميركية، ولابس بعض وجوهها ومناحيها البارزة، و"ركض" في عدد من ميادينها. وخروجه من صفوف العاملين في المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون، أي من صفوف من نسميهم أو كنا نسميهم "المسخراتية"، تصغيراً وازدراءً، قرينة على التصاقه بمنازع الثقافة الديموقراطية والجماهيرية الأميركية، وخوضه مياهها وروافدها. وهي غير الثقافة اللفظية واللاغية من اللغو التي نقدمها، وغير الثقافة التاريخية والأدبية والحقوقية التي يجلها معظم السياسيين الأوروبيين.
وأسعفه هذا، وهو بين "ادارته" وفي "عشيرته"، على انتهاج سياسات جمعت بين المبادئ التقليدية والشائعة تقليل الضرائب والانفاق الاتحادي الاجتماعي، لجم التوسع الشيوعي... وبين الحدس في الحوادث الطارئة والمتغيرة. فتنبه على أزمة القوة العسكرية السوفياتية، وعلى إرهاق تكلفتها المتعاظمة عاتق اقتصاد مقيد ومقعد، بينما كان أقرانه ونظراؤه الأطلسيون ينظرون الى القادة السوفيات نظرة تخلط الخوف بالإكبار والانبهار. فأطلق مبادرة الدفاع الاستراتيجي، أو الترس الفضائي، في ميدان التسلح التقاني التكنولوجي النوعي الذي تتفوق فيه الولايات المتحدة على روسيا السوفياتية. وحداه الى مبادرته أمران: الإفادة من ميزة تفاضلية أميركية، بديهة، وإنكاره وقوع المدن الأميركية والأوروبية الكبيرة تحت التهديد النووي الشيوعي.
فخالف، هو "الأمي" الاستراتيجي، رضوخ كبار الخبراء لمبدأ "ضمان التدمير المتبادل" الذي رعى توازن الرعب النووي، وتعايش كتلتين كبيرتين متعاديتين. ولكنه وقع معاهدتين في 1987 و1988 مع غورباتشوف، أخلت الأولى المسرح الأوروبي من الصواريخ المتوسطة، على ما شاء ريغان وأصر، وقيدت الثانية ستارت - 1" عدد الصواريخ القادرة على حمل أكثر من متفجرة نووية. وآذنت المعاهدتان بعجز الاتحاد السوفياتي، اقتصاداً واجتماعاً، عن النهوض بتبعات القيادة السياسية الدولية. وانتقل صاحب شعار "امبراطورية الشر"، والمحجم طوال ستة أعوام 1979 - 1985 عن لقاء القادة السوفيات، على خلاف تقليد أوروبي سائر، من رمي الحرم "الديني" على العدو الى مساعدته على التخلص من أغلال القوة ومزاعمها التي قيد نفسه بها.
وترجحت سياسته الاجتماعية "الريغانية - الثاتشرية" نسبة الى السيدة ثاتشر رئيسة وزراء بريطانيا في أثناء العقد، بين حد تقليص النفقات في ولايته الأولى، وتحميل الفقراء والمعوزين والبطالين والمرضى أعباء التقليص، وبين عودة متدرجة ومتوازنة في ولايته الثانية الى بعض "الكرم". فتدنت أسعار المواصلات والاتصالات، وزادت الفوائد على المدخرات الصغيرة والمتوسطة. واقتصت أزمة عاصفة، في 1987، من شره سوق الأسهم ولهاثها وراء أرباح عالية. ونزلت نسبة البطالة من 9.5 الى 5.4 في المئة. وكبحت السياسة الاقتصادية والنقدية التضخم، وهو كان آفة العقود السابقة. وتولى غرينسبان، حاكم الاحتياط الفيديرالي الذي جدد له الكونغرس ولاية خامسة في اليومين المنصرمين، قيادة السياسة النقدية. فرعى عقد الازدهار الذي شاع في ولايتي كلينتون. ويعزوه بعض المراقبين الى سنوات ريغان الأخيرة، وهو عزف في أثنائها عن التصدي للحكومة الفيديرالية و"تبذيرها" مواردها على المتكسبين، في سيارات من طراز "كاديلاك" على زعم المرشح ريغان، من الموارد هذه.
وهذه السياسات المترجمة والمتعرجة، على شاكلة الأهواء والآراء الديموقراطية، رسمت قسمات السياسي الأميركي الراحل، وثبتتها للخلف من غير أن تبدد بعض ظلال الوجه العميقة. وهي، كذلك، تمثيل قوي على مسالك بلورة السياسات التاريخية في المجتمعات الديموقراطية المحدثة والكبيرة، وعلى معاني القيادة في هذا الضرب من المجتمعات. ولعل الغرابة التي يتصور فيها هذا الوجه، وتمثيله على منعطف كبير وقفت مجتمعاتنا منه متفرجة ومتوارية وريغان هو من ابتدأ أول مفاوضة أميركية مع الفلسطينيين بتونس في السنة الأخيرة من ولايته الثانية، وآذن بأوسلو، هي بعض معيار استغلاق حوادث العالم واستعجام الديموقراطية علينا، مجتمعات وسياسة وثقافة.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.