سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
اغتيال جون ف. كينيدي قبل اربعين عاماً ... انتزع الولايات المتحدة من "زمن البراءة" ورماها في "زمن فيتنام" واضطرابه . صناعة صورة الرئيس القتيل من منازع التاريخ الأميركي المعاصر الكثيرة والمتضاربة 1 من 2
غداة اثني عشر عاماً على اغتيال جون فيتزجيرالد كينيدي، الرئيس الخامس والثلاثين للولايات المتحدة الأميركية، في 1985، سأل استطلاع رأي الأميركيين عن ترتيبهم رؤساءهم و"طبقات" هؤلاء الرؤساء. فحل كينيدي، وهو الذي اقتصرت رئاسته على 1036 يوماً ولم يتم الأعوام الثلاثة من ولايته وبلغ السادسة والأربعين لتوه، اولاً بحسب 56 في المئة منهم. ولم يتقدمه، على رأي الجمهوريين وهو الديموقراطي حزباً، إلا ابراهام لنكولن. ولنكولن هو رائد الحزب الجمهوري، والمنتصر على حزب التمييز العنصري والعبودية الجنوبي في حرب الانفصال، ومبتدئ توحيد شطري الولاياتالمتحدة شمالاً وجنوباً، وصريع متعصب جنوبي وهو في السادسة والخمسين من العمر، في 1865، مئة وعامين وسبعة اشهر قبل مصرع جون ف. كينيدي. وقدمه الديموقراطيون على ثلاثة من كبار الرؤساء الأميركيين هم روزفلت فرانكلين وهاري ترومان وجورج واشنطن نفسه. وكانت لجنة الشيخ الديموقراطي لويس ستوكس، وهي تولت التحقيق في اغتيال الرئيس الراحل بعد تعاظم الشكوك في تحقيق اللجنة الأولى في 1963 - 1964 المعروفة بلجنة وارن، احصت في 1978 ألف عمل تناولت الاغتيال. وبعض هذه الأعمال، شأن تقرير لجنة وارن في ايلول سبتمبر 1964، بلغ عشرات آلاف الصفحات في 26 جزءاً من الوثائق المتفرقة. وهذا جزء من "صناعة" واسعة، طباعية وسينمائية وتلفزيونية وقضائية بوليسية ومتحفية، لم تنضب طوال الأربعة عقود المنصرمة منذ الاغتيال، في مدينة دالاس الصغيرة يومها من اعمال ولاية تكساس، يوم الجمعة في 22 تشرين الثاني نوفمبر 1963، الساعة 12 ظهراً والدقيقة 34، "تاريخ" برقية مراسل وكالة "اليونايتد برس" الهاتفية الأولى: "اطلقت ثلاث عيارات نارية على موكب الرئيس كينيدي". والواقعتان، الاستطلاع والإحصاء، قرينتان على مكانة الرئيس القتيل الفريدة في التاريخ السياسي الأميركي، على ما يتخيله الأميركيون المعاصرون. ولا يكتم المؤرخون، بإزاء هذه المكانة، حيرتهم وترددهم. فليس في "الألف يوم"، على وجه التقريب، التي قضاها الرئيس الخامس والثلاثون في البيت الأبيض، على رأس السلطة التنفيذية الأميركية، صنيعٌ سياسي او اقتصادي او عسكري او ديبلوماسي تصح مقارنته بما صنعه رؤساء سبقوه، وتقدمه كثرة الأميركيين عليهم. فهو لم يقد اميركا في حرب كبيرة انتصرت فيها، وخرجت منها قوة عظمى. ولم يخرجها من ازمة اقتصادية واجتماعية ارتدت مضاعفاتها صفة كونية. ولم يتم خطة داخلية عريضة، مثل دمج السود او القضاء على الفقر، إلى اواخرها. ولم يرس العلاقات الدولية علي قانون جديد او سوية غير مسبوقة قبله. فعلى خلاف هذه المنجزات التي يصح ان ينسب بعضها الى روزفلت وترومان وولسون ولنكولن وآدامز ومونرو، ومن بعد كينيدي الى نيكسون وريغان، لم يقيض لكينيدي في ختام السنة الثالثة من ولاية اولى وكان يزمع الترشح الى ولاية ثانية، وحظوظه في الفوز، على وجه الاحتمال طبعاً ، غير ضعيفة انجاز ما ابتدأه، وما أعلن عن عزمه على إنجازه. فالسنتان الأولان من الولاية الرئاسية الأميركية غالباً ما يستنفدهما ويصرمهما التدرب والتجريب. ويبدد الإعداد للولاية الثانية السنة الرابعة والأخيرة من الولاية الأولى. فتحتسب السنة الثالثة من هذه، والسنتان الأولان من الولاية الثانية، إذا فاز الرئيس بها. وما "بقي" من الولاية الكينيدية المقصوفة ليس باهراً، على رغم ثمار موعودة لم تينع، وعظَّم ضياعُها وعودَها المرجوة، على جاري سنّة في تعظيم ما لم يتحقق. فالبرنامج الاجتماعي الداخلي، وأبرز بنوده إقرار المساواة المدنية للسود الأميركيين وتوسيع دولة الرعاية الروزفلتية للفقراء والمعوقين الاجتماعيين، وتقييد نفوذ "الكارتلات"، خطا خطواته الأولى، المدنية خصوصاً. وتعثرت خطواته الاجتماعية، وبقيت رهينة الإنجاز الاقتصادي وحبيسته المقيدة بقيوده. ولم تؤتِ قوانين محاربة الجريمة ثمارها. ودورها راجح في تقويض العلاقات الاجتماعية في المدن والأحياء الملونة والمختلطة الفقيرة. وسرعان ما تصدرت الرئاسة البنية الدستورية المعقدة. فآذن تصدرها بما سماه بعض اعوان كينيدي "الرئاسة الامبريالية"، او المتسلطة، في السياستين الداخلية والخارجية. ورجحت كفتها على كفة الكونغرس وأضعفت رقابة الهيئات التمثيلية. واستدركت الولاياتالمتحدة على "تأخرها" العلمي والتقني الفضائي عن الاتحاد السوفياتي في ولاية كينيدي. ومهدت الطريق الى استعادة سبق وتفوق لم تحسن ولايتا آيزنهاور 1953 - 1960 تثميرهما، وآذنا بتخلف الخصم السوفياتي وإرهاقه قبل تصدعه في نهاية العقود الثلاثة الآتية. وصدت رئاسة كينيدي محاولات خروتشيف على رأس سياسة الاتحاد السوفياتي 1953- 1964، استثمار الابتزاز العسكري النووي في سبيل تغيير الخارطة السياسية الأوروبية والآسيوية الشرقية. فدعا الإخفاق السوفياتي الى سياسة الحد من التسلح، والرضا باقتسام القطبية، بعد جموح الستالينية في فصولها الأخيرة. ولكن ديبلوماسية كينيدي لم تفلح في بناء ركيزة اوروبية متماسكة للشراكة الأطلسية، من غير ان تقع التبعة كلها على العاتق الأميركي. وعلى المنقلب العالم ثالثي من السياسة الدولية لم تفلح الإدارة في فك قبضة كاسترو عن كوبا، ولا في استمالة شعوب اميركا الجنوبية، وانتزاع نخبها من السراب الغيفاري والكاستروي الذي غلب عليها طوال العقدين السابع والثامن. وكان جون ف. كينيدي داعية "تصفية الاستعمار" في الامبراطوريات القديمة والمتبقية، ونصير استقلال الجزائر البارز. ولكنه لم يستبق الورطة الفيتنامية، على رغم مبادرته الى حل مشكلة اللاوس، البلد اللصيق بفيتنام، من طريق المفاوضة الإقليمية والدولية. ونسب إليه انصاره ومريدوه بعد اغتياله، وتعاظم الالتزام والاشتباك الأميركيين في جنوب شرق آسيا، عزمه على الانسحاب السريع. وحمّلوا خليفته، ونائبه في اثناء ولايته، المسؤولية عن المعالجة العسكرية المتفاقمة. ولعل هذا كذلك من نتائج الرحيل المبكر. علل ضعيفة وفي ضوء الحصاد السياسي هذا تنحو هالة كينيدي الأميركية، وغير الأميركية الى حد بعيد، نحو المبالغة والإفراط. وهذان لا شك فيهما إذا قصر النظر على الحصاد السياسي وما يتصل به. ولكن أثر الرجل لم يتأتَ من السياسة وحدها، ولا أولاً ربما. ولم تكن هذه إلا العامل الذي رجح سريان الأثر العريض والعميق في مجاريه الكثيرة. فسدة الرئاسة الأميركية رفعت الى مرتبة كونية مرئية ومنظورة عوامل الأسطورة التي جللت هامة الرئيس، منذ خطوه الخطوات الأولى الى الرئاسة نائباً عن ولاية ماساشوستس في 1946 ثم شيخاً، واستوائه رئيساً وهو في الثالثة والأربعين، الى حين مصرعه بعد ثلاث سنوات لم يتمها، وهو الى جنب زوجته، الفتية والجميلة والثكلى، وبقاء مصرعه لغزاً لم يفك غداة اربعين عاماً عليه، وتضافر اللجان والأجهزة والهيئات والأفراد على فكه وجلائه. فالصورة، السينمائية والتلفزيونية والفوتوغرافية والقصصية الصحافية، جزء متعمد ولا يتجزأ من جون ف. كينيدي، الإنسان الفرد والسياسي العام والعلني، على نحو ما هي جزء لا يتجزأ من العصر، ومن تناوله نفسه، وفعله وفهمه. ولعل مقتله على الشاكلة التي قتل عليها، وعسر الوصل بين مقتله وبين حياته وسيرته إلا من طريق تخيلات وتكهنات ضعيفة، لعل مقتله هذا مدعاة هذيان تأويلي مسترسل هو سمة من سمات العصر والمعاصرة. فالاغتيال الذي قصف عمر اكثر الرؤساء الأميركيين فتوة، وهو في منتصف كهولته، فجّر معيناً من الصور والمعاني لم ينضب بعد، وقد لا ينضب في وقت قريب. وأودى الاغتيال بالسياسي "الشاب" والفائر النشاط ظاهراً والقوي والوسيم والبليغ - وأحد شجعان الحرب الثانية التي قاتل فيها قائد زورق طوربيد بي تي 109 أغرقه اليابانيون في المحيط الهادئ على مقربة من جزر سليمان، وشقيق احد قتلاها وهو إلى مقود طائرته - من غير تعليل له من القرارات والإجراءات والحوادث السياسية، ولا من وقائع السيرة الشخصية، التي لابست سياسة الرئيس او حياته وسيرته. فسياسة الأقليات المدنية والاجتماعية، على رغم شجاعتها وإثارتها حفيظة اهل الجنوب المحافظ وأثريائه، لم تبلغ مبلغاً، يسوغ معه الاغتيال. وهي باعث ضعيف على الاغتيال في مجتمع كثير المشارب، ورفع موازنة المنازع والسلطات المختلفة بعضها بعضاً، الى مرتبة فضيلة اولى ومتصدرة، على رغم منزع لا ينكر الى العنف. وتخلي إدارة كينيدي عن استعمال الجماعات المنفية الكوبية في زعزعة ديكتاتورية كاسترو، بعد حملة خليج الخنازير المتسرعة في 1961، ثم أزمة الصواريخ والأسلحة النووية السوفياتية بكوبا في خريف 1962، واستعداءُ هذه الجماعات تالياً، وبعضها وثيق الصلة برؤوس المافيا الذين كانوا يعيثون في الجزيرة الكاريبية في عهد باتيستا، ليس سبباً وافياً لقصد الرئيس، وليس وزير الخارجية او مدير الاستخبارات المركزية، بالاغتيال. وما قيل عن عزم كينيدي على إقالة مدير مكتب التحقيقات الجنائية إف بي آي النافذ والمزمن، إدغار هوفر، حين بلوغه الوشيك سن التقاعد القانونية، على خلاف رأي نائبه، ليندون ب.جونسون، المتورط في قضايا جعلته لقمة سائعة لتهديد هوفر، يدعو ما قيل الى اغتيال وزير العدل. ويكذبه او يوازنه امتلاك هوفر هذا "ملفاً" يعود الى علاقة كينيدي الغرامية بصحافية دنماركية، إينغا آرفاد، استقبلها هتلر، وكانت من "صيد" غوبلز، وزير الدعاوة النازي، قبيل دخول الولاياتالمتحدة الحرب في آخر شهر من 1941. فإذا كان تهديد نائب الرئيس ناجعاً، فينبغي ان يكون تهديد الرئيس نفسه، او شقيقه وزير العدل، على قدر قريب من النجاعة والجدوى. وهذه الافتراضات، وهي غيض من فيض، تضع الرئيس الأميركي على مفترق اهواء ومنازع اميركية لا حصر لها. فلا تفوتها اي الافتراضات اصول الرئيس الإيرلندية الكاثوليكية. وهو "الابن" الثالث، نزولاً، لجد ايرلندي، باتريك كينيدي، ترك ارضه الصغيرة إبان مجاعة الخراف، في 1843، وقدم الى بوسطن، وخالط مهاجريها من قومه، وهم اشبه بعصابات نيويورك التي صورها مارتن سكورسيزي في شريطه في 2002. ولا تفوتها مخالطة جده المافيا الإيرلندية، وتعبئتها في حملاته الانتخابية المتواضعة. ولا علاقة والدة جوزيف، غداة الحرب الأولى وقبيل رفع الحظر عن تجارة الكحول وإباحة تعاطيها، ببعض زعماء المافيا الإيطالية، ومشاركته اياهم، في اثناء وقت قليل، تهريب الويسكي من بريطانيا وإيرلندا. وتحوم على بعض الافتراضات اطياف هوليوود التي كان جوزيف نفسه، الوالد، احد مستثمريها الأوائل، وكانت مصدراً من مصادر ثرائه الكبير وهو كان احد الأثرياء الأميركيين المائة الأوائل في العقد الرابع من القرن العشرين، ومعشوقاته المشهورات، وأولهن غلوريا سانسون، وهي نظير مارلين مونرو في سيرة الابن الرئيس الغرامية. والجمع بين المال والنفوذ السياسي، بواسطة النقابات والآلات الانتخابية والحزبية وعصابات الجريمة المنظمة وللإيرلنديين والإيطاليين باع فيها وبعض كبار موظفي الشرطة والقضاء، شق طريقه الى بعض المزاعم، وأسهم في حياكتها ونسجها. وألقت الحرب الباردة بدلوها في البئر المعتمة هذه. فغرفت الدلو ماء استخباراتياً، سوفياتياً وكوبياً، لا يقل غزارة عن ماء المافيا وهوليوود والجريمة المنظمة وأثرياء الجنوب والمنافسة الانتخابية الداخلية. المنعطف ومنشأ هذا الفيض من التأويلات هو الفرق بين الواقعة المادية، او بين جسم الواقعة المبهم والغامض وبين كثرة الأهواء والمنازع والمصالح الأميركية التي توسطها الاغتيال وجمع بينها. فالواقعة نفسها تكاد تقتصر على جريمة عادية. ففي اواخر ربيع 1963، عزم الرئيس الأميركي على زيارة ولاية تكساس، وضرب موعداً في تشرين الثاني. وتندرج الزيارة هذه في التجوال على الولايات الذي يسبق الإعداد لانتخابات الرئاسة في آخر السنة الرابعة. وتتفق انتخابات الرئاسة، غالباً، مع انتخابات النواب وحكام الولايات والمجالس المحلية، ومع تجديد انتخاب ثلث مجلس الشيوخ الدوري. ويبلغ عدد كبار ناخبي الولاية في المجلس الانتخابي الرئاسي 24 صوتاً، اي 5،4 في المئة من المجلس. وفاز كينيدي ونائبه، قبل ثلاثة اعوام، بأصوات تكساس، بفرق لم يبلغ الخمسين ألف صوت من مليونين وثلث المليون. وعليه فاستمالة الولاية أمر ذو شأن. ويتمتع فيها صناعيو النفط بدور مرجح. وهم يناوئون سياسة كينيدي الاجتماعية والضريبية، ويتخوفون اجراءاتها التي تطاولهم. وإلى هذا فالحزب الديموقراطي المحلي منقسم على نفسه. ويتنازعه جناح محافظ، يتقدمه جون كونالي، الحاكم، وجناح ليبرالي، على رأسه الشيخ ياربورو. فزيارة الرئيس قد تثمر تحكيماً في الخلاف، من وجه، وتعود على مالية الحزب المحلية بريع التبرعات وعائد المشاركة في الحفلات والموائد والمحاضرات، من وجه آخر. وتعول الزيارات الى الولايات على الاختلاط بالمواطنين ومصافحتهم، والتوجه إليهم. واصطحاب الزوجة والأولاد يصبغها بصبغة عائلية و"مباشرة". وهي جزء من تقاليد سياسية عريقة، ومن مزاولة السياسة على مراتبها. كانت دالاس، في 22، المحطة الرابعة من زيارة بدأت قبل يومين بسان انطونيو ثم بهوستون. وفي 21 حط الرئيس بفورث وورث، معقل جونسون، وبات ليلته بها. وصباح 22، وهو وقع في يوم جمعة، ركب الطائرة الرئاسية الى دالاس. وعلى ما كان متوقعاً، استقبلته صحفها بإعلانات وقعها "مواطنون مهمومون بأميركا"، يقول بعضها: "اهلاً بالسيد كينيدي الذي ينتهك الدستور، وباع مذهب مونرو لصالح روح موسكو". ونعى عليه بعضها الآخر الإعداد لاستئصال مناهضي الشيوعية بواسطة وكالة الاستخبارات المركزية، وتأييدَ الحزب الشيوعي الأميركي، وتركَه اخاه وزير العدل، الشيوعي المتخفي، يصنع ما يشاء، الخ. ووزعت منظمة يمينية متطرفة بياناً طبعت عليه صورة كينيدي، وكتب تحتها: "مطلوب بالخيانة". ومثل هذه الأمور ليست استثناء في حياة سياسية يتنازعها قطبان، محلي ووطني، منازعة حادة ومتطرفة. وفي الساعة الحادية عشرة والدقيقة الأربعين حطت الطائرة الرئاسية بمطار دالاس، "حقل الحب" على ما يسمى. فاستقبله نائبه، وهو سبقه الى المدينة، وحوله وجوه الحزب وأعيانه. وركب سيارة مكشوفة، وإلى يساره زوجته جاكلين، وعلى المقعد امامهما حاكم الولاية وزوجته. وبموجب برنامج الزيارة المعلن والمعروف منذ 19 الشهر الجاري، كان ينبغي ان يبلغ الموكب قاعة "ترايد مارت" الواسعة 2500 مقعد بعد ثلاثة أرباع الساعة، فيلقي الزائر في جمع الأنصار والمتبرعين خطاباً. ورفض الرئيس حماية قريبة كانت، لو قبلها، حالت بينه وبين "حمام الجموع" او الجماهير، على ما يدعوها الغربيون. ولكانت قرينة على الخوف من المواطنين، وعلى الظن فيهم العداوة، على خلاف الدعوى الديموقراطية. وسار موكب السيارات، ووراءه حافلة الصحافيين، بطيئاً. وعلى جهتي طريق ماين ستريت المفضية يميناً الى هوستون ستريت، ثم بعدها يساراً الى إِلم ستريت، جمع من المواطنين يتقاسمهم التلويح للرئيس بالتحية والتنديد به بالإشارة والكلام. وطلب الرئيس مرتين من السائق التوقف، ومد يده، مصافحاً، الى أيدٍ تهافتت على مصافحته. وعند منعطف هوستون ستريت الى إِلم ستريت، بلغت سرعة سيارة الرئيس 18 كلم في الساعة. وعلى زاوية المنعطف، على يمين الموكب، يرتفع مبنى من ست طبقات تخزن فيه دور نشر مدرسية كتبها، ويعرف باسم "تكساس سكول بوك ديبوزيتوري". وعلى طول إلم ستريت، وبموازاته، ساحة "ديلي بلازا" التي يغطيها عشب الحدائق، وتستقبل القادم من هوستون ستريت. ودخلت مقدمة الموكب المنعطف، واجتازت مبنى مخزن الكتب لتوها حين دوت طلقات رصاص في الساعة الثانية عشرة والدقيقة 33، استغرق دويها جزءاً من ثانية. وعلى ما ظهر على شريط صورة هاوٍ، اسمه ابراهام زابرودير، وهو واقف في ساحة "ديلي بلازا" بجهاز تصوير سوبر 8 ملم مدته كاملاً 26 ثانية، انهار كينيدي يساراً، الى جهة زوجته وعليها، وأصيب كونالي، الحاكم، في فخذه. وحاولت جاكلين كينيدي الخروج من السيارة. فزحفت على ركبتيها على غطاء الجزء الخلفي، فركض شرطي من الشرطة السرية، وردها الى محلها الأول. وفي مستشفى باركلاند المحلي، حيث وصل الموكب بعد دقائق، تبين ان الجهة اليمنى من دماغ كينيدي تناثرت. فحاول الأطباء الاحتفاظ بعمل جهاز التنفس، فشقوا القصبة الهوائية ووصلوها بجهاز. وكانت الساعة الواحدة بعد الظهر حين تيقنوا ان جون ف. كينيدي قضى. وأذيع النبأ في الدقائق القليلة التالية. ولما لم يكن احد يعلم، ساعتذاك، إذا كان الاغتيال الحلقة الأولى من حرب عالمية على الولاياتالمتحدة الأميركية ام حادثة طارئة، وضع نائب الرئيس، المؤتمن على دوام السلطة، شأن نظيره في 11 ايلول سبتمبر 2001، في حجرة مظلمة، قبل ان ينتقل من باب جانبي الى المطار، حيث الطائرة الرئاسية، وينتظر جاكلين كينيدي ورفات الرئيس القتيل. وفي الثانية بعد الظهر والدقيقة الأربعين، والطائرة جاثمة على الأرض، اقسم ليندون باينس جونسون اليمين، ونصب الرئيس السادس والثلاثين للولايات المتحدة الأميركية. وأقلعت الطائرة بالرئيس الجديد الى واشنطن العاصمة بعد عشر دقائق من قسم اليمين. وكان نقل الجثمان مثار خلاف بين قضاء الولاية وبين وزراء الرئيس ومعاونيه من مرافقيه. فزعم موظفو التحقيق والشرطة المحليون ان النظر في الجريمة من اختصاصهم، وليس للسلطات الفيديرالية ان تتدبر الأمر وحدها. ولكن التحقيق الجنائي لم يتعثر بالخلاف الأميركي هذا. فأجمع الشهود على ان مصدر اصوات الرصاص هو مبنى مخزن الكتب. ورأى احد الشهود من الرصيف المقابل رجلاً نحيلاً، في الثلاثين تقريباً، طوله نحو 175 سنتمتراً، يوجه واقفاً فوهة بندقيته الى موكب الرئيس. ورأى آخرون جسماً معدنياً يخرج من نافذة المبنى. فدخل الشرطيون المبنى، وبدأوا التفتيش والتحري، ومنعوا الخروج من المبنى والدخول إليه. ووقع مساعد "الشريف" قائد الشرطة في الطبقة الأخيرة، السادسة، بين ركام الكرتون، على ثلاث طلقات فارغة، ولصق النافذة على ثلاث علب الواحدة فوق الأخرى. وغير بعيد من النافذة بندقية مجهزة بمنظار، ملقية ارضاً. ودقق احد الشرطيين في لائحة الموظفين. فوجدهم يعدون ستة عشر موظفاً، خمسة عشر منهم في المبنى، والسادس عشر، واسمه لي هارفي اوزوالد، وحده متغيب، ودخل العمل في الشهر السابق، وكان لتوه في المبنى، بحسب زملائه وزميلاته. وطابق وصف زملائه له وصف الشاهد الرجلَ النحيل الذي كان يوجه فوهة بندقية الى الموكب. وفي الساعة الواحدة والربع كان شرطي، اسمه ج.د. تيبّيت، يتحرى الجوار في سيارته. فأبصر رجلاً يشبه الوصف الذي عممته الشرطة على افرادها، وعلى المواطنين. فركن السيارة، وتقدم الى الرجل محادثاً. فرد الرجل بأربع رصاصات من مسدسه اردت الشرطي تيبّيت. ورأى مارةٌ المشهد، فأعلم بعضهم الشرطة، وتعقب آخر الرجل الذي دخل صالة سينما قريبة. وبعد دقائق حاصر الشرطيون الصالة، وأضاؤوها، ودخلها بعضهم وأوقفوا الرجل. ودلت الشرطة المحلية بنجاحها السريع، وأبعدت تهمة التواطؤ او الارتباك القريبة والمخيمة. فأرادت الإدلال بصنيعها امام عدسات الصحافة المتقاطرة الى دالاس، وحماية اوزوالد من سيل التهديدات بالموت والقتل، ونقله من سجن دالاس البلدي الى سجن الولاية. وقرر نقل اوزوالد في 24، يوم الأحد، صباحاً. ومُوّه النقل، فتوقفت سيارة سجن امام باب المقر، وغادرته خالية، بينما كانت سيارة شرطة عادية تنتظره بموضع آخر. ولم تنطل الحيلة على احد. فاحتشد الصحافيون، وعدساتهم، في الطبقة السفلية من مقر الشرطة، في انتظار المتهم. وخالط الصحافيين المحتشدين فضوليون كثر استحصلوا بطاقات صحافة من غير عسر. وبعد تأخر طال، خرج لي أوزوالد من المصعد، مصفد اليدين، يحوطه شرطيان. فتعالى صراخ الصحافيين بالأسئلة. وبينما يشق المتهم والشرطيان الطريق وسط الحشد المتدافع، خرج من الحشد رجل يرتدي بزة داكنة، ويعتمرقبعة رعاة بقر، وأفرغ مسدسه في صدر اوزورالد وبطنه. فقتل جاك روبي ضحيته فوراً، وعشرون مليوناً من مشاهدي التلفزة ينظرون. وقال روبي، وهو صاحب ملهى ليلي وصالة مقامرة في دالاس، انه اراد الحؤول بين جاكلين كينيدي وكارولين، بنتها، وبين المثول امام المحكمة التي تقاضي لي اوزوالد على جريمته، والتعرض لآلام التذكر. وحوَّل مقتل المتهم الأول، قبل التحقيق الفعلي والمثول بين يدي القضاء، وقبل ان يسمع الناس كلمة واحدة منه، اغتيال الرئيس من الإبهام الى الإلغاز المطبق. وألقى طيف المؤامرة بظلاله المقلقة على الحادثة برمتها. وأطلق العنان للخيال الجامح. * كاتب لبناني.