تثير الردود اليسارية الاسرائيلية الهزيلة على قتل اليمين الاقصى في حكومة آرييل شارون خطط ومشاريع التسوية المطروحة كافة، بما فيها تلك البائسة كخريطة الطريق وخطة شارون للفصل الاحادي التي رحب بها اقطاب اليسار، اسئلة متعددة لا تتعلق فقط بمآل هذا التيار المتهم ب"اليسارية" ومستقبله المنظور. وانما، ايضاً، بالخيارات التي ستواجه اسرائيل التي تزداد اصراراً على تكريس نفسها كدولة يهودية و"ديموقراطية"، وتسعى، عبر استخدام اكبر قدر من القوة، الى دفن حقوق الفلسطينيين الوطنية والمدنية، وحتى الانسانية، ووضع حد لتطورهم الديمغرافي الذي بات هاجساً مقلقاً، سواء في اسرائيل ذاتها او في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزةوالقدسالشرقية التي تمدد اليها الجدار الفاصل أخيراً. وقبل الدخول في متاهة هذه الاشكالية المزدوجة التي نما على حوافها اندفاع الكثير من قادة اليسار السابقين ومفكريه وصحافييه الى مواقع اليمين المتطرف بمن فيهم، أخيراً، المؤرخ بني موريس الذي كان يتصدر مجموعة "المؤرخين الجدد"، لا بد من التذكير بأن قوى اليسار الصهيوني، وتحديداً "حزب العمل" و"حركة ميرتس"، كانت اول من طالب بالانفصال عن الفلسطينيين، وذلك قبل ان يقتنع اليمين، بغالبيته، باستحالة ضم الاراضي الفسطينية المحتلة عام 1967 كون ذلك يؤدي اما الى خلق واقع ابارتهايد مرفوض على المستويات كافة، او الى تحول اسرائيل الى دولة ثنائية القومية ذات مواطنة متساوية. ولكن هذا الاقتناع بضرورة الفصل لم يأخذ في الاعتبار تلك البلاغة اللفظية التي ميزت خطاب قوى اليسار، وغلفت برامجها واطروحاتها ومبادراتها، بما فيها "مبادرة جنيف التي اكدت يهودية الدولة، وعلى بقاء كتل استيطانية في الضفة الغربية تحت السيادة الاسرائيلية، وانما عبّر عن نفسه، وكما تجلى في مشروع شارون للفصل هتنانكوت، بطريقة لا تحتمل المخاتلة والتأويل: مواصلة بناء جدار الفصل العنصري الذي سينتهي العمل به نهاية العام 2005، احتلال الجيش الاسرائيلي خطوط تماس جديدة وتحصينها بموازاة اعادة تموقع عشرات المستوطنات المعزولة وتطوير الكتل الاستيطانية بما يؤدي الى عزل نحو 12 جيباً فلسطينياً في المناطق "أ" و"ب" بحسب اوسلو. وبعد اكتمال بناء الجدار يعيد الجيش انتشاره داخل المناطق التي ستضم فعلياً الى اسرائيل، والتي ستتخم بالمستوطنات والمناطق الصناعية والطرق والمؤسسات والمنشآت التابعة للجيش، فيما ستسمى الجيوب الفلسطينية التي ستبقى تحت رحمة الجيش الاسرائيلي دولة فلسطينية. معظم اطياف اليسار الاسرائيلي يحيل اسباب تراجع قوة هذا التيار وانحسار تأثيره في السنوات الاخيرة الى "اكذوبة" رفض رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات عرض ايهود باراك "السخي" في "كامب ديفيد - 2"، وتبنيه الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي ضمنت انصراف الاسرائيليين عن هذا اليسار وطليعته حزب العمل كجهة يمكن الوثوق بها لحمايتهم، وهو تفسير لا يعبر الا في شكل جزئي عن حال الضعف والإنهاك التي تعتري اوصال العمل وسواه من الاحزاب التي تحاول جاهدة العودة الى تصدر واجهة الاحداث المتسارعة، ليس في الاراضي الفلسطينيةالمحتلة فقط وانما في منطقة الشرق الاوسط برمتها، وذلك عبر طرح المبادرات "السلمية" العقيمة والعديمة الجدوى من دون تحقيق اي نجاح جدي يذكر حتى الآن. ولعل العودة عقوداً عدة الى الوراء، والتمعن في التركيبة السياسية لدولة اسرائيل تساهم في وضع اليد على الاسباب الاخرى للانحدار اليساري. فمنذ انشاء الدولة الاسرائيلية على يد الاوروبيين اليهود الذين كان معظمهم من حملة الايديولوجيا الاشتراكية، بتنويعاتها المختلفة، لم تكن احزاب اليسار الرئيسية اشتراكية بالمعنى المتعارف عليه لهذا المصطلح، ليس على المستوى النظري وحسب، وانما لكون افكارها لم تنبثق من مشاكل اقتصادية واجتماعية لطبقة عمالية محلية، وانما انتقلت اليها كجزء من الثقافة الغربية لليهود المهاجرين، وبالتالي فإن هذه الايديولوجيا كانت سابقة على ما يسمى البنى التحتية في عرف الاشتراكيين، ولم تكن وليدة الظروف المجتمعية الجديدة التي نشأت بعد اقامة الدولة. وبخلاف المتعارف عليه، نظرياً على الاقل، من ان الشرائح الدنيا في المجتمع هي الخزان الطبقي لقوى اليسار وخطابها، اتجه اليسار الاسرائيلي الى النخبة الاشكنازية ممثلة في الجامعات والمراتب العليا في الجيش، والتي كانت تبدو في نظر اليهود الشرقيين السفارديم الذين يشكلون الطبقة الفقيرة والمسحوقة في المجتمع اليهودي، مؤسسة مغلقة على نفسها، بالاضافة طبعاً، وبحكم طبيعة المهاجرين الاوروبيين الذين قامت الدولة على اكتافهم وظروف النشأة والتكوين والوظيفة، الى الهيمنة على "الكيبوتزات" واتحاد نقابات العمال "الهستدروت" الذي كان يشكل العمود الفقري للمجتمع الاسرائيلي قبل ان تنخفض العضوية فيه الى ثلث ما كانت عليه، ويتراجع دوره الى حدود غير مسبوقة نتيجة هيمنة اقتصاد السوق المعولم في السنوات الاخيرة. وبحكم التطورات السياسية والاقتصادية التي شهدها النصف الثاني من السبعينات، وخصوصاً بعد صعود الليكود الى سدة السلطة في اسرائيل، ازدادت الهوة التي تفصل قوى اليسار عن الفقراء من اليهود الشرقيين الذين تأثروا بالخطاب العنصري الشعبوي لليمين الصهيوني والديني، فيما انغمس اصحاب الكيبوتزات وزعماء الهستدروت في المشاريع المالية، وتحولوا الى رجال اعمال همهم الرئيس عقد الصفقات ومراكمة رأس المال. وعندما قررت قوى اليسار استعادة زمام المبادرة ولجم "شطحات" اليمين المنفلتة من عقالها لم تجد امامها سوى الميدان السياسي، بعدما اصبح من المتعذر التميز بمواقف محددة من القضايا الاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً في ظل انجذاب الفئات الافقر في المجتمع الاسرائيلي الى حركة الاستيطان التي بات زعماؤها يؤثرون جدياً في القرارات السياسية المتعلقة بمصير الاراضي المحتلة، وذلك بسبب المساعدات التي تقدمها الحكومة للمستوطنين، والتي تجعل تكاليف ونفقات العيش ادنى من بقية المناطق. لكن الطرح اليساري الذي تمحور حول الاستعداد للتوصل الى حلول وسط مع العرب ظل مشدوداً الى الحراك الداخلي والاقليمي والدولي وسط افتقار شديد الى الجديد والصدقية التي تقتضي التسليم بحقوق الشعب الفلسطيني والانسحاب من الاراضي المحتلة عام 1967. ولعل فشل تجربة اوسلو التي سمحت ثغراتها الكثيرة لليمين المتطرف بوضع عبواته فيها ونسفها، لا بل واغتيال صاحبها الاسرائيلي اسحق رابين، ما زالت تشكل دليلاً حياً على بؤس السياسة المخاتلة الرجراجة التي يعتمدها هذا اليسار، وتحديداً حزب العمل الذي تبنى، منذ بضعة اشهر، برنامجاً سياسياً جديداً لتسوية الصراع في الشرق الاوسط يرتكز على "اتفاق جنيف". يعيد "العمل" في برنامجه الجديد هذا انتاج السياسة ذاتها التي لم تستطع مغادرة مواقعها السابقة، فبعد التأكيد، في المقدمة، على ضرورة ان تبقى اسرائيل دولة يهودية ديموقراطية ذات اكثرية يهودية واقلية "تحظى بالمساواة"، يرى الحزب ان حال التوازن الديمغرافي ما بين البحر المتوسط ونهر الاردن "تهدد وجود اسرائيل كدولة يهودية ديموقراطية" وبالتالي لا بد من الفصل سياسياً وديمغرافياً بينهم كأساس لاي اتفاق. ويضيف انه ملتزم أن يحارب الطرفان الاسرائيلي والفلسطيني وبحزم "الارهاب الفلسطيني بحيث تقوم اسرائيل بكل الخطوات الشرعية لمحاربة الارهاب ومنفذيه وكل من يساهم فيه بالتنسيق مع الفلسطينيين الذين يلتزمون ذلك"، كما يؤكد على ضرورة بناء الجدار الفاصل، لكن على خط الحدود القائم قبل عام 1967، وليس على المسار الحالي، وكذلك ضرورة ازالة المستوطنات التي بدأت تقوم بعد الاول من آذار مارس 2001، اي منذ تولي شارون السلطة، وتجميد البناء الاستيطاني فوراً، بحسب خطة "خريطة الطريق" على ان يجري التفاوض حول مصير بقية المستوطنات في المرحلة اللاحقة. ويحدد البرنامج الاسس التي يجب ان تستند اليها اتفاقية السلام مع الدولة الفلسطينية المأمولة بالتالية: وقف جميع انواع العنف والارهاب، حدود آمنة ومعترف بها من الطرفين يتم رسمها على اساس حدود 4 حزيران يونيو 1967 مع بعض التعديلات النابعة من احتياجات الامن ضمن المستوطنات الاسرائيلية بالاتفاق مع الفلسطينيين وبحسب مبدأ تبادلية الاراضي، بحيث تكون القدس عاصمة لاسرائيل بكل احيائها اليهودية والمستوطنات المحيطة بها في القدسالشرقية، على ان تكون الاحياء الفلسطينية في القدسالشرقية عاصمة فلسطين. كما يؤكد البرنامج على الا تكون عودة اللاجئين الفلسطينيين الى حدود اسرائيل، وان تكون الدولة الفلسطينية المنزوعة السلاح، وان يتفق على اجراءات امنية تضمن المصالح الامنية لاسرائيل ولفلسطين من خلال الاعتراف لكل طرف بالسيادة الكاملة على ارضه. والى حين التوصل الى هذا الاتفاق يقترح برنامج "العمل" ان تقوم اسرائيل بخطوات احادية الجانب مثل الانسحاب الكامل من قطاع غزة وازالة المستوطنات فيه، وهو مقترح ما زال محور خلاف في الدائرة السياسة للحزب على رغم تماثله مع دعوات شارون الاخيرة، واحتفاظ اسرائيل بالسيطرة على المداخل البحرية وعلى الاجواء وعلى الحدود المصرية - الفلسطينية. وعلى رغم المفارقة المتمثلة في كسب اليسار جانباً من المعركة الايديولوجية بعد تراجع اليمين، بكتلته الرئيسية، عن التحليق في اوهام "ارض اسرائيل الكبرى"، الا ان ذلك لا يحجب حقيقة ان تآكل قوى اليسار وعجزها وتهافت برامجها ساهمت في الحراك المجتمعي الاسرائيلي نحو اليمين وشعاراته العنصرية المتطرفة، واغلاق ابواب التسوية التي جرفت دبابات الجيش المنتشرة في مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية ما تبقى من شظاياها، وهو ما يضع اسرائيل امام خيارات مصيرية عدة يصعب ترجيح احدها في الوقت الراهن بسبب انعدام آفاق الحلول السياسية، وتسيد لغة الدم والقتل وهدم البيوت واقتلاع الاشجار، في مقابل تعمق المأزق الاميركي في العراق، واستمرار حال الشلل والمراوحة العربية التي تعتمد منطق الحفاظ على الذات اولاً. الخيار الاول، هو ان تقدم اسرائيل على تفكيك المستوطنات وتعود الى حدود العام 1967، وبذلك تكون انجزت الحل التاريخي الوسط، وحافظت، قدر المستطاع، على يهوديتها. الثاني، هو ان تواصل بسط سيطرتها على الاراضي المحتلة، وتحمل تبعات الصراع الدامي على المستويات كافة، بما في ذلك استمرار تدفق شلال الدم الفلسطيني خصوصاً، وتراجع معدلات الهجرة اليهودية، وانهيار الاوضاع الاقتصادية. وليس ثمة قناعة بأن تنفيذ خطة الفصل التي يزعم شارون انها ذات طبيعة امنية سيخفف من آثار هذه التبعات التي ستبقى مرهونة بالحل الذي يوافق عليه الفلسطينيون. اما الخيار الثالث، فهو ان تسعى اسرائيل الى ضم الاراضي المحتلة بعد طرد اصحابها العرب، او اجبارهم على الرحيل. * كاتب فلسطيني.