عبدالكريم آل أحمد يُحكى أن ابن خولان في صباح باكر كان متكئا على جدار بيته يتشرّق، وبينما هو مُستدفئ في الشمس وقت الشروق، لاحت ذكريات الصبا والسير في الأرض تدغدغ مشاعر العجوز وأحاسيسه، فزفر زفرة تفتحت معها قريحته لينشد: قال ابن خولان في الدنيا نَفَس يلقى النَفَس من دَرَج في الدنيا وسار ما ياكل الهم إلا من جلس يحسب الدهر ليل ونهار شيئا من هذين البيتين تسلل إلى مسامع الابن الذي لم يلحظ الأب وجوده حوله، فاقترب من أبيه وسأل مندهشا: «أيش قلت يابه؟». أجاب الأب مرتبكا: «لاش يا ولدي». ألّح الابن «أنا معنزٍ عليك أن تعلمني». وأصر الابن على أبيه أن يُعيد ما أنشده، حاول الأب التهرب لكن بلا جدوى، فقد خشي أن يفهم ابنه مغزى القصيدة فيرتحل جائلا في الأقطار، وكان حريصا أشد الحرص على بقاء ابنه بجواره، إذ لم يكن يطيق فراقه ساعة من نهار، فتدارك الأمر وأنشد: قال ابن خولان قد طفت البلاد لا مثل بيتي سقى الله لي مساه إن جيت جايع فيشبعني بزاد وإن جيت بارد فيلحفني دَفَاه عند النظر في القصيدة الأولى نجد أن ابن خولان محق فيما قاله، وفي القصيدة الأخيرة نجده على صواب أيضا، فهو لا يقصد نسف الأولى كما هو دارج عند كثير من الرواة الذين يعتقدون أن ابن خولان أراد تضليل ابنه وصرفه عن السفر والترويح عن نفسه، فهذه رؤية ضيقة، وتفسير خاطئ غير منطقي. فابن خولان لم يناقض نفسه، بل أمسك العصا من الوسط، وخلق توازنا بين حاجة السفر والترويح، وحاجة الإقامة والاستقرار. فقد عني في كلمة «النَفَس» الراحة والاستجمام، أما «دَرَج» فيعني السياحة في الأرض. وبالتالي يرى ابن خولان من واقع تجربته أن السعادة تأتي مع التجوال، لأن الهم لا يتمكن إلا في من ألِفَ القعود في محله، ليس له شاغل غير عد أيامه. لكن ابن خولان أدرك أن هذه النظرية رجحت بكفة الاعتدال، عندها ألقى في الكفة الخالية قصيدته الأخيرة يشرح فيها خلاصة تجربته في أن الاغتراب في الديار لا يعدل وطن الإنسان ومنزله الذي يأويه ويستكن فيه. وهنا جعل ابن خولان الوسطية طريقا لتطبيق نظريته ذات الجناحين اللذين لا يحلق بهما دون رأس الحكمة وذيل المعرفة، وهاتان الصفتان عُرف بهما ابن خولان في الحكايات الشعبية المتداولة بين الناس في الماضي والحاضر، وسواء كانت شخصيته حقيقية أم أسطورة، فإن المجالس تزدان بأشعاره وحكمه الكثيرة، ولأن المساحة لا تتسع لذكرها أختم بمقولته الشهيرة: «البيت المَرَة، والحَب الذَرة».