قبل أيام كان اليوم العالمي للغة العربية. كل شيء تم بسرعة وعلى أكمل ما يكون، الخطب ألقيت، والدراسات نُشرت، واللغة زُفّت إلى الواجهة، كعروس في ليلة العمر. كل شيء قيل عنها: إنها عظيمة، مهددة، لغة القرآن، لغة المستقبل... أو الماضي... أو كليهما حسب المتحدث. وهنا تحديدًا فقدت الرغبة في الكتابة. ليس لأن الموضوع انتهى، بل لأن الضجيج حوله صار أعلى من أن يسمح بفكرة هادئة. ولهذا قلت لنفسي: لن أكتب عن العربية بوصفها «ضحية» تحتاج إلى محامٍ، ولا بوصفها «ملكة لغات» تحتاج إلى مديحٍ يومي. سأكتب عن اللغة نفسها... عن ذلك الشيء الذي نستخدمه كل يوم ثم ننساه. وعن العربية بوصفها واحدة من هذه المعجزات البشرية، بوصفها أوعية المعاني. لهذا علينا أن نعود خطوة إلى الوراء، ونسأل السؤال الأبسط: ما هي اللغة أصلًا؟ قد نتفق على أنّها، قبل أن تصبح قواعد ونحوًا وبلاغة، كانت حلًا لمشكلة عملية جدا، كيف أقول لك ما أريده بطريقة سهلة. كانت محاولة بشرية لتقليل سوء الفهم، لكنها صارت أحيانًا أداة لصناعته. الكلمة التي وُجدت لتقريب المسافات، قد تخلق فجوة، والجملة التي وُلدت للتوضيح، قد تُستخدم للتلاعب، ومع ذلك... لا نملك بديلًا. اللغة هي أقل الوسائل سوءًا. نحن لا نفكر بدون لغة، حتى الصمت له لغة داخلية، وحين تتعطل اللغة، يتعطل جزء من وعينا بالعالم. من هنا، تصبح اللغة أكثر من مجرد أداة، تصبح مستودعًا للذاكرة، وخزانًا للتجارب، ووعاءً هشًا نحمل فيه ما لا يُرى. والعربية واحدة من هذه الأوعية، ليست الوحيدة، وليست الأخيرة، لكنها وعاء واسع، قديم، مليء بالترسبات الجميلة والمربكة في آن واحد. نكتب بها كتبنا الرصينة، نستخدمها حين نريد أن نبدو أكثر حكمة مما نحن عليه، نستدعيها في الخطب، وفي الافتتاحيات، وفي المناسبات التي تتطلب وقارًا لغويًا، لكننا لا نعيش بها. نعيش بلغات أخرى صغيرة، يومية، دافئة. لهجات لا تخجل من الاختصار، ولا تخاف من الخطأ، ولا تطلب إذنًا من القواعد كي تقول ما تريد. لهجات تؤدي وظيفتها الأساسية بكفاءة مذهلة: تجعلنا نفهم بعضنا بسرعة. وهنا يقع سوء الفهم الكبير: نظن أن اللهجات منافسا للفصحى، كأن اللغة حلبة مصارعة، لا جسدًا حيًا بأطراف متعددة. الحقيقة أبسط من ذلك وأكثر تعقيدًا في الوقت نفسه. الفصحى لم تُخلق لتكون لغة الحياة اليومية، ولا اللهجات خُلقت لتكون لغة المعرفة العابرة للأقاليم. كل واحدة تؤدي دورًا مختلفًا، والمشكلة تبدأ حين نطلب من إحداهما أن تقوم بدور الأخرى. القصة قديمة جدًا... أقدم مما نحب أن نعترف. العرب، في بداياتهم، لم يتحدثوا لغة واحدة. كان لكل قبيلة نغمتها، واختياراتها، واعتزازها الخاص بطريقة الكلام. لكن حين احتاجوا إلى سوق يجمعهم، وإلى شعر يُسمع خارج الديار، وإلى تفاهم يتجاوز حدود المضارب، ظهرت الحاجة إلى لغة مشتركة. لغة «وسطى» إن صح التعبير. ليست لغة أحد بعينه، بل لغة الجميع حين يلتقون. القرآن جاء بهذه اللغة المشتركة ومنحها مركزًا ثابتًا، مرجعًا لا يشيخ، نقطة يمكن الرجوع إليها كلما ابتعدت الألسنة. وهذا - من زاوية حضارية - أمر بالغ الأهمية. لأن اللغة التي تملك مرجعًا نصيًا محفوظًا، تستطيع أن تتغير دون أن تتفتت، تتحرك... لكنها لا تضيع. لكن الحفظ لا يعني الجمود، اللغة التي لا تتغير تموت، حتى لو بقيت محفوظة في الكتب. والعربية، رغم كل ما يُقال، تغيّرت كثيرًا. مفرداتها، دلالاتها، وتغيّر استعمالها. ما نعدّه اليوم «فصحى نقية» هو نفسه نتيجة قرون من التحول والتراكم. ومع ذلك، نحب أن نتعامل مع اللغة كما نتعامل مع قطعة أثرية: نلمعها، نحيطها بالحبال، ونمنع الاقتراب منها. ثم نتساءل: لماذا لا يستخدمها الناس؟ اللغة لا تُستخدم لأنها جميلة، ولا لأنها مقدسة، بل لأنها وسيلة. وسيلة اتصال – كما يقولون - وهنا نصل إلى النقطة الحساسة التي نتحاشاها غالبًا: قوة اللغة لا تُقاس بحبنا لها، قوتها تُقاس بمدى حضورها في حياة البشر اليومية والمعرفية. إذا أردت أن تعرف قوة لغة ما، فانظر: بأي لغة تُكتب الأبحاث العلمية؟ بأي لغة تُدار التقنية؟ بأي لغة تُصنع الأدوات التي نستخدمها كل يوم دون أن نفكر؟ العربية، بلا شك، لغة ذات انتشار واسع، وذات تاريخ هائل. لكنها اليوم ليست اللغة الأولى في إنتاج المعرفة العالمية الحديثة. وهذا ليس حكمًا قيميًا، بل توصيفاً لحالة. الإنجليزية - على سبيل المثال - لم تنتشر لأنها أفضل أخلاقيًا، بل لأنها صارت لغة النظام العالمي «العلم، التقنية، الاقتصاد، الإنترنت». من يملك مفاتيح هذه العوالم، يملك لغتها. ولهذا، فإن الكاتب الذي يحلم بأن يُقرأ خارج حدوده الطبيعية، سيصطدم بالحقيقة نفسها: العالم يقرأ بلغة معينة، أو ينتظر الترجمة إليها. وهنا نقع مرة أخرى في فخ الشعور بالذنب، كأن الترجمة اعتراف بالهزيمة، كأن الأفكار تخون لغتها حين ترتدي لغة أخرى. وهذا فهم رومانسي... لكنه غير عملي. الترجمة ليست هزيمة اللغة، الترجمة انتصار الفكرة. واللغة التي تثق بنفسها لا تخاف أن تُترجم، لأنها تعرف أن الأصل سيبقى. الخطر الحقيقي على العربية ليس في الإنجليزية، ولا في اللهجات، ولا حتى في الكلمات الأجنبية التي نتبادلها بلا حرج. الخطر الحقيقي هو أن تتحول العربية الفصحى إلى لغة «احتفالية»، لغة تُستخدم في الشعارات، بينما تُدار الحياة بلغة أخرى. أن يتعلم الطفل العربية بوصفها مادة دراسية، ثم يكتشف أن الإنجاز الحقيقي يحدث خارجها، فينشأ داخله انفصام خفي: هذه لغة للواجب... وتلك لغة للحياة. وهذا أخطر من أي استعمار لغوي، لأنه يحدث بهدوء، دون صراع، ودون مقاومة. الحل - إن كان هناك حل أصلًا - لا يأتي بمزيد من الخطب، ولا من إعلان حب جماعي للغة مرة في السنة. يأتي من استخدامها في المجالات التي تُنتج المستقبل «العلم، التقنية، الفلسفة المعاصرة، السرد الحديث، الأسئلة الجديدة». أن نكتب بها عن أشياء لم تكن موجودة من قبل، لا أن نكرر بها ما قيل ألف مرة. أن نعاملها كأداة تفكير، وليس كموضوع تفكير فقط. العربية لا تريدنا أن نحتفل بها، تريدنا أن نُدخلها في الأسئلة الصعبة، في الأفكار الجديدة، المساحات التي لم تُجرَّب بعد. أما إن اكتفينا بحبها من بعيد، فلا تقلقوا... ستبقى جميلة جدًا، نقية جدًا، ومهملة جدًا، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث للغة.