على اختلاف الاختبارات الجديدة التي يعايشها اللاجئ حال وصوله إلى هولندا يبقى اختبار اللغة الذي يضعه لأول مرة وجها لوجه مع حقيقة كونه لاجئا هو الأصعب والأكثر إلحاحا. قلة من اللاجئين ينقذهم تعليمهم العالي وبعض من لغة إنكليزية تعلموها في بلادهم قبل أن تسلك درب الحرب ويسلكوا هم دروب اللجوء. لكن الغالبية الساحقة من الذين يغلب عليهم التعليم المتواضع بخاصة أن تعليم الإنكليزية في سورية كان بائسا بما فيه الكفاية ليعجز أحدهم عن التلفظ بالكثير من الكلمات بنطق سليم، يعمدون إلى إنجاد أنفسهم بما يطرأ عليهم من مواقف وما يحتاجون إلى التعبير عنه باللجوء إلى وسائل متنوعة؛ تبدأ بلغة الإشارة والصور وتصل إلى الاستعانة بمترجم غوغل. وأحياناً تنتهي بطلب خدمة الترجمة من صديق يملك شيئاً من إنكليزية متوسطة أو جيدة ويتخفف من التكبر على تلك الفئات الأكثر بؤساً من اللاجئين. وليس بعيداً من هذه المعاناة اليومية للاجئين في هولندا مع اللغة والترجمة في معاملاتهم اليومية بخاصة مع موظفي مؤسسة (الكوا) التي ترعى شؤونهم وتشرف على إقامتهم في مراكز اللجوء، تسأل الجهات الهولندية الرسمية اللاجئ فور بدء المعاملات عن لغته الأم أو اللغة التي يتحدث بها، والتي يرغب أن تتم معاملاته ومقابلاته بها. فلا يكون من اللاجئ سورياً كان أم عراقياً أم من جنسيات عربية إلا أن يجيب بأنها العربية بطبيعة الحال. لكن تأتي المفاجأة لدى سؤاله عن اللهجة التي يتحدث بها؛ أيقصد سورية أم عراقية أم مغربية أم غيرها من لهجات عربية لم تكن يوماً لغات مؤسسات حكومية وأوراق ومعاملات في بلاده. وغالباً ما يجيب اللاجئ عن هذا السؤال باستخفاف أو بعدم فهم لأهميته ومغزاه في أحسن الأحوال. يقول سامر (28 سنة) وهو شاب سوري وصل إلى هولندا خريف العام الماضي وحصل على الإقامة فيها قبل أسابيع: «حين سئلت عن اللهجة العربية التي أتحدث بها فكرت كثيراً في مغزى السؤال ثم أجبت بعد تردد وبصوت منخفض «السورية». لم أحسب أن «السورية» لغة قد يعرف الإنسان نفسه بأنها لغته الأم. ثم لماذا لا نتحدث بالعربية الفصحى أو بأي عربية وانتهى الأمر»؟! المفاجأة التي تعتري اللاجئ حيال هذا السؤال تزول ما أن يلمس مغزاه لمس اليد في معاملاته الطبية والقانونية خاصة. ففي كل هذه الإجراءات يتم طلب مترجم يحضر شخصياً أو عن طريق الهاتف ويقوم بالترجمة بين المحقق أو الطبيب واللاجئ. يسرد سامر ل «الحياة» حالة واجهته ووضعته وجهاً لوجه مع سؤال اللغة واللهجة فيقول: «في إحدى المقابلات تم الاعتذار مني لعدم وجود مترجم سوري، واستفسروا بلطف إن كنت أمانع حضور مترجم عراقي، لم أبال بالأمر ووافقت. ففوجئت في اليوم التالي عند تدقيق المقابلة أنه تم تحريف الكثير من أقوالي وتغير بعضها تماماً وإن من دون سوء نية». وتأتي أهمية تحديد اللهجة العربية التي ينطق بها اللاجئ من أنه يستخدمها مع الهولنديين في مواقف خاصة وذاتية جداً، سواء كان الأمر طبياً لعرض الآلام والأعراض أم قانونياً/أمنياً يعرض قصصاً شخصية من الحرب والهروب منها. لذا يكون لصياغة الجملة وطريقة التعبير فضلاً عن بعض الألفاظ الخاصة دور في إيصال المعنى على حقيقته من دون التباس أو خطأ ما أمكن ذلك. الكثير من اللاجئين تغيرت نظرتهم لهذا السؤال مع الكثير من سوء الفهم الذي نجم عن تجاوزه في بعض الحالات. يقول علاء (32 سنة) وهو شاب عراقي من الموصل وله تجربة مماثلة لتجربة سامر مع الترجمة واختلاف اللهجات: «إن لم يكن المترجم عراقياً أعتذر منهم وأطلب تأجيل الموعد، وهم يتفهمون ذلك، وهذا أفضل». ثم يضيف ضاحكاً: «عندما أتحدث مع المترجم السوري أخرج عن طبيعتي وأبذل جهداً إضافياً وأشعر أنني في مسلسل تلفزيوني». يقول إيلي (23 سنة) وهو شاب سوري لجأ إلى هولندا من ريف حماة: «في المدرسة كنت دائماً أحصل على علامات متدنية في مادة التعبير مع أني متميز في بقية المواد، كنت أجد صعوبة بالتعبير بالعربية الفصحى، وأود لو أستطيع الكتابة باللغة نفسها التي تحكي لي جدتي فيها الحكايات. ومع كل كلمة سورية في موضوع التعبير كانت المعلمة تمزق الموضوع وترميه في وجهي». ولطالما ساد اعتقاد أن الأزمات التي تعانيها البلدان العربية بما يخص اللغة الأم تخص الأقليات وحدها؛ الأكراد والأمازيغ والأرمن على وجه الخصوص، لكن ليتكشف عند الاختبار أن الجميع تقريباً متساو في التشوه اللغوي. ويقول علاء: «بعد المواقف التي حدثت معي هنا، كثيراً ما أفكر بصديق طفولتي الكردي، كان كثيراً ما يبكي في المدرسة ويتعرض للسخرية من الطلاب والمعلمين لأنه لا يستطيع التحدث بطلاقة بالعربية. وإذا كان اختلاف اللهجة يفعل ذلك، فماذا عن اختلاف اللغة»؟! الكثير من اللاجئين وبعد مضي وقت على إقامتهم هنا نجحوا في إقامة صداقات مع هولنديين، ولم تبق هذه الصداقات في الواقع فقط بل انتقلت إلى مواقع التواصل الاجتماعي. يتحدث سامر عن عجز صديقه الهولندي عن فهم منشوراته على «فايسبوك» حين يكتبها باللهجة السورية خصوصاً إذا حملت سخرية مضمرة، مع أنه يفهمها في شكل مقبول إلى جيد حين يكتبها بالعربية الفصحى مع الاستعانة بخاصية الترجمة التلقائية. ويقول: «حين سألني صديقي ذلك احترت بما أجيبه في البداية، لكن في ما بعد شرحت له أن المنشورات التي لا يفهمها ليست مكتوبة بالعربية بل ب»السورية» وهي لغتي الأم وارتاح حين أعبر بها عن بعض الأفكار والمشاعر. وهذه اللهجة أو اللغة لا يحتويها أي مترجم».