في ظلّ التطورات المتسارعة والتحديات اليومية، تغيّر المشهد اللغوي العربي بوضوح. تراجعت الفصحى الشفهية في الحياة العامة، وانزاحت شيئًا فشيئًا نحو فضاء الخطابات المكتوبة، لا سيما في المجالات الرسمية والتعليمية والإعلامية المقنّنة. أصبحت الفصحى لغة الورق والمنصّات والخطب، بينما احتلّت العامية مساحة الحديث اليومي، والحوارات السريعة، والتواصل العفوي. لكن.. هل يعني هذا أنّ الفصحى تقترب من الزوال كلاميًا؟ وهل العامية نقيض لها؟ الواقع اللغوي يُجيب بلا. أولًا: الفصحى لم تختفِ.. بل غيّرت موقعها. اللغات، مثل البشر، تغيّر أدوارها بحسب الزمن. الفصحى اليوم ليست اللغة المنطوقة في كل سياق -وهذا طبيعي بسبب اختلاط الشعوب- لكنها ما زالت: لغة التعليم والمعرفة. لغة الإعلام الرسمي والمنابر. لغة الكتابة الرفيعة، والأدب، والهوية المشتركة بين العرب. إذاً، الفصحى لم تتلاشَ؛ انتقلت من الممارسة اليومية إلى الوظيفة العليا: لغة التعبير الدقيق، والتوثيق، والكتابة التي تُخاطب الجميع بلا لهجة تحدّهم. ثانيًا: العامية ليست دخيلة.. وكثير من مفرداتها فصيحة الأصل يتخيّل البعض أن العامية "غريبة" عن العربية، لكنها في الحقيقة ابنةٌ شرعية للفصحى، نشأت عنها وتحوّرت بالصوت والدلالة عبر الزمن. الكثير من كلماتنا اليومية فصيحة تمامًا، لكنها مرّت بعمليات طبيعية مثل: تخفيف الهمز: شيء/ شي حذف الحركات: نحن/ حنّا، تغيير الدلالة: زعلان، فاضي، الحين.. كلها ألفاظ موثّقة في المعاجم القديمة. ثالثًا: هل العامية تُهدّد الفصحى؟ التهديد الحقيقي ليس من العامية، بل من: ضعف التعليم اللغوي. وقلّة القراءة، والاعتماد المُفرط على المحتوى الرقمي السريع والحشو اللغوي. أما العامية نفسها، فهي جزء من النسيج اللغوي العربي، تحمل الإبداع الشعبي، والأمثال، والصور اليومية التي تُغني اللغة ولا تُضعِفها. وقد شهدت اللغات العالمية الأخرى الظاهرة نفسها: لغة رسمية عالية، ولغات محكيّة متنوّعة، دون أن يؤثر ذلك على مكانة اللغة المعيارية. لماذا تبقى الفصحى رغم كل شيء؟ لأنها: لغة جامعة: تفهمها كل البيئات العربية مهما اختلفت لهجاتها. لغة تراثية: تحمل القرآن، الأدب، الشعر، الثقافة. لغة مرنة: تتجدّد عبر الإعلام، الرواية، الخطاب السياسي، وحتى عبر المحتوى الرقمي. إذاً.. الفصحى لم تتقلّص؛ بل أعادت توزيع حضورها. والعامية ليست غزوًا لغويًا، بل انعكاس طبيعي لحياة الناس اليومية. إنّ الخوف ليس على الفصحى، بل على تعلّمها. أمّا هي فباقية.. ما بقيت الحاجة إلى الكتابة، والفكر. وأُشير هنا إلى أن ممارسة العامية في الكلام تختلف عن كتابتها؛ فالمشافهة بطبيعتها مرنة ومتغيرة، أما الكتابة فتميل إلى الثبات والانضباط، وتفرض على الكاتب العودة إلى الرسم الصحيح والقاعدة المعيارية. وهذا ما يجعل الفصحى حاضرة بقوة، حتى عند من لا يتحدثون بها في حياتهم اليومية. وما دامت القراءة قائمة، وما دام العربيّ يكتب ليُفكّر ويعبّر، فستظل الفصحى قائمة، وثابتة -بإذن الله-.