اللغة العربية كائن حيّ، لا يقف عند حدٍّ واحد، إنما يتنفس عبر مستويات متدرجة، تبدأ من الفصحى العليا في نصوص الوحي، ولا تنتهي عند لهجات الناس في الأسواق والمجالس. هذا التدرج ليس ضعفًا في العربية، بل شاهدٌ على مرونتها وقدرتها على أن تحيا في كل زمان ومكان، وفي هذه المساحة أستعرض مستويات اللغة وفق أساسين متداخلين: أحدهما وظيفي يتصل بمجال الاستعمال وغرض الخطاب، من لغة الدين والعلم إلى لغة الحياة اليومية؛ والآخر بنيوي يتصل بدرجة التزام الكلام بالقواعد والأبنية العربية. فمن خلالهما تتشكل طبقات العربية الأربع: الفصحى العليا، والفصحى المعاصرة، والفصيح، والعامية، في تدرجٍ من الأرفع إلى الأبسط، ومن المعياري إلى التداولي. الفصحى العليا (لغة الوحي والمعيار): هي اللغة التي خلدها القرآن الكريم، وجعلها ميدان الإعجاز البياني، تمتاز بعمق التراكيب، وصفاء البيان، ودقة المعنى. وهي المعيار الذي قاس عليه النحاة واللغويون كلام العرب، وجعلوه ميزانًا للجزالة والفصاحة، هذه الفصحى تظل محفوظة، عصيةً على التبدل، لأنها ارتبطت بالقداسة والعبادة والتعليم. وفي عصرنا، برزت لغة وسطى، تُعرف بالفصحى المعاصرة (لغة الوسط المشترك)، هي لغة الإعلام، والتعليم، والكتابة الصحفية. تلتزم بالضوابط العامة للنحو، لكنها تبسّط الأسلوب وتخفف من التراكيب الثقيلة. هي الجسر الذي يربط بين الفصحى العليا واللهجات، وهي التي تمنح العرب لغة جامعة يتفاهمون بها في المحافل والمؤتمرات. في مستوى ثالث، نجد ما يُسمّى بالفصيح (الخطاب القريب من الناس)، وهو كلام يراعي أغلب قواعد العربية، لكنه يتسامح مع بعض الانزياحات اللغوية، يظهر في الشعر الحديث، وفي خطب الوعّاظ، وفي لغة المثقفين حين يخاطبون الجمهور. إنه خطاب حيّ، أقرب إلى الناس من الفصحى الصارمة، وأبعد من العامية الخالصة. أما العامية (لسان الحياة اليومية)، فهي اللهجات المتنوعة التي يتخاطب بها الناس في بيوتهم وأسواقهم، تختلف من بلد لآخر، بل من مدينة إلى مدينة، تحمل في طياتها بقايا من العربية القديمة، وتستعير من اللغات المجاورة، وتظل أسرع المستويات تغيرًا وحركة، ورغم ما يُثار حولها من جدل، فإنها تعبّر عن نبض الحياة اليومية، وعن العاطفة والمزاج الشعبي. وعن جدلية المستويات فإننا نراها ثراءً لا انقساماً، فقد يظن البعض أن هذا التعدد اللغوي انقسام يهدد وحدة العربية، لكنه في الحقيقة ثراء يثبت حيوية اللسان، الفصحى تمنحنا الجذور الراسخة، والفصحى المعاصرة تمنحنا لغة جامعة، والفصيح يقرب الخطاب من الناس، والعامية تعكس نبضهم اليومي. والوعي بهذه المستويات لا يعني تذويب الفصحى، بل استثمار العامية والفصيح في خدمة الفصحى، حتى تبقى اللغة جامعة للهوية والوجدان معًا. هكذا تتجلى العربية في مستوياتها المتعددة: لغة السماء التي لا تموت، ولغة الثقافة التي تجمع، ولغة الناس التي تنبض بالحياة، وبين هذه الطبقات يتشكل تاريخنا اللغوي، الذي يؤكد أن العربية أداة للتواصل، ووعاء فكرٍ وهوية. مراجع تراثية: -ابن جني – الخصائص تناول فيه ظواهر اللغة ومستوياتها واستعمالاتها في الخطاب العربي. -الجاحظ – البيان والتبيين أشار إلى اختلاف مستويات القول بين العامة والخاصة، والفصحاء والبلغاء. -ابن قتيبة – أدب الكاتب عرض فيه الفروق بين الصواب واللحن، وما يعد من فصيح الكلام. -السيوطي – المزهر في علوم اللغة وأنواعها من أوسع الكتب التي عرضت لتطور اللغة ومستوياتها وأسباب اختلافها. مراجع حديثة: -تمام حسان – اللغة العربية: معناها ومبناها من أهم الكتب التي درست مستويات الأداء اللغوي في العربية (الصوتي، الصرفي، النحوي، الدلالي). -إبراهيم أنيس – من أسرار العربية وفي اللهجات العربية تناول العلاقة بين الفصحى واللهجات، وتحليل اللهجة بوصفها مستوى لغويًا. -عبد السلام المسدي – الازدواج اللغوي والازدواجية الثقافية حث في الفصحى والعامية ضمن سياق الهوية والواقع الثقافي العربي. -أحمد مختار عمر – اللغة العربية: معناها ومبناها وعلم الدلالة قدم تحليلاً دقيقًا لمفهوم المستوى اللغوي من زاوية الدلالة والاستعمال. -رمضان عبد التواب – فصول في فقه العربية ناقش فيه ظاهرة التطور اللغوي والفروق بين مستويات الاستعمال. -علي عبد الواحد وافي – فقه اللغة تناول فكرة الفصحى والعامية ضمن التطور الطبيعي للغات الحية.