لطائف.. تلك المدينة الحالمة التي كانت مسرحًا للشعر ومقراً للأدب، وفي أرضها وقف النابغة والفرزدق وجرير، في سوقٍ ما زال اسمه يُحاكي ذاكرة الأمة، مدينة تنفست القصيدة مع نسيم الصباح، وسكبت عبير الورد في دواوين العشاق، أصبحت اليوم طيّ النسيان، لا يُذكر اسمها إلا عابرًا، ولا تحضر في مشهد السياحة والثقافة إلا شبحًا لبهاءٍ كان، وهي مأوى النخب والمثقفين، ومنبت الحكايات التي رواها التاريخ على مسامع الزمن، وكأنها خرجت من دائرة الضوء، رغم أنها كانت فاتحة الفصول في ذاكرة الصيف، ونبضه الأول حين تهبُّ نسائمه، وهناك في الشفا والهدا، حيث يتعانق الضباب مع القمم، وحيث النسيم لا يعرف الصخب، وفي الأسواق القديمة، حيث العطور تسرد قصصاً من المسك والعنبر، وفي المزارع الممتدة، حيث الورد يُقطف كما تُقطف الأبيات من قافية مترفة، وها هي اليوم تقف بصمت على هامش الاهتمام، تنظر من بعيد إلى مواكب الترويج التي تمضي نحو مصائف أخرى، حيث تُنسج لها الهويات وتُروى عنها الحكايات وتُقام فيها المواسم والمهرجانات، فيما تظل الطائف معلّقة بين ذاكرةٍ عابقة بالمجد وواقعٍ باهت الحضور، وكأن عطر الورد لم يعد يغري كما كان، ولا نسماتها التي كانت تبعث الحياة في الأرواح قادرة اليوم على استمالة القلوب، أيعقل أن تُنسى مدينة كانت الفصل الأول في رواية الجمال، ومطلع الحكاية حين يبدأ البهاء، أحقًا يصدق فيها قول الشاعر البدوي المثقف حسين سرحان عندما وصفها بهذين البيتين: لوْ أَصْلَحُوهُ بِمَا يَلِيقُ بِمِثْلِهِ لَطَغَى عَلَى كُلِّ الْبِلَادِ كَمَالُهُ لَكِنَّهُمْ تَرَكُوهُ إِهْمَالًا، وَكَمْ مِنْ خَالِدٍ أَوْدَى بِهِ إِهْمَالُهُ الطائف لم تغب، لكنها خفتت في زحام الأولويات، وتراجعت إلى الهامش رغم أن حضورها لا يزال نديًّا، وصورتها محفوظة في وجدان من عرفها، ربما لم يكن التجاهل مقصودًا، وربما أن المدن حين تُؤخذ بخطط التنمية السريعة يُفلت من يدها بعض الجمال النائم على حواف الضوء، الطائف لا تصرخ، لا تتكلف، لكنها تلوّح في الأفق بهدوء لمن يراها، ليس المطلوب إعادة اختراع المدينة، بل علينا أن نذكّرها، ونمنحها ما تستحقه من اهتمام لا يقف عند الذاكرة، بل يُعيدها إلى دائرة الحضور بثقة واتزان، فالطائف لا تزال هناك، شاهدة على الزمن الجميل، وقادرة على صناعة زمن أجمل.. إن أُتيح لها أن تتنفس كما اعتادت، الطائف درة غابت عن العيون، لا عن الجوهر، تنتظر فقط أن يُزال الغبار عن بريقها. نقلا عن الرياض