في صباح مأساوي بمحافظة الرس نهاية أغسطس الماضي، خيّم الحزن على جموع المصلين وهم يودّعون ستة من أبناء الجالية السودانية قضَوا نحبهم في حادث مروري، بينما كانوا في طريقهم من الرياض للصلاة على قريب لهم تُوفي في محافظة عقلة الصقور بالقصيم. مشهد موجع يُعيد إلى الأذهان ظاهرة تتكرر بين حين وآخر: وفاة شخص، فيسافر عدد من أقاربه للتعزية، لتتحوّل رحلة المواساة إلى مأساة جديدة، ويُفقد آخرون حياتهم باسم ما يُسمّى واجبًا اجتماعيًا. وهنا يطرح السؤال نفسه هل تستحق التعزية أن ندفع ثمنها بأرواح جديدة؟ ومتى تصبح المكالمة الهاتفية أو رسالة عبر وسائل التواصل أسمى وأصدق من سفر محفوف بالمخاطر؟ الفقه الإسلامي كان واضحًا في هذا الباب. فقد أفتى عضو هيئة كبار العلماء الدكتور صالح الفوزان أن السفر للتعزية لا أصل له شرعًا، وأن التعزية لا تتطلب مجالس ولا ولائم، بل يكفي لقاء المصاب في المسجد أو الطريق أو حتى عبر الهاتف، مع تقديم الطعام بقدر الحاجة من قِبل الجيران. قوة هذا الرأي لا تكمن في الجانب الشرعي فحسب، بل في عمقه الإنساني أيضًا: فتعريض حياة الآخرين للخطر من أجل عاطفة يمكن التعبير عنها بوسائل أكثر أمانًا، أمر لا يقرّه عقل ولا منطق. اليوم لم تعد وسائل التعبير عن المواساة محدودة كما كانت في الماضي. فالمكالمات الهاتفية، والرسائل الصوتية، وتطبيقات التواصل، جميعها تتيح تقديم التعزية بصدق وسرعة، دون أن يقطع المرء مئات الكيلومترات. ومن هنا يغدو التمسك برحلات قد تُكلف أرواحًا جديدة بلا مبرر مقنع. إن الحكمة تقتضي أن نعيد النظر في هذه العادات المرهقة، فنقدّم الرحمة بالحياة على أي اعتبار آخر. فالتعزية الصادقة لا تُقاس بعدد الأميال المقطوعة، بل بصدق المشاعر وحرصنا على سلامة من نحب. وكل مكالمة أو رسالة نابعة من القلب قادرة على أن تصل إلى قلب المصاب، دون أن نعرض أنفسنا أو غيرنا للخطر. فلتكن الرحمة بالحياة شعارنا، ولتظل المشاعر الصادقة جسرًا يربط القلوب، لا طريقًا قد يودي بالأرواح.