في مسيرة الحياة يبرز الإنسان في صورة المتغير الأكبر بما يحدثه من سلسلة الأفعال والأقوال والأفكار، في شقيها الإيجابي والسلبي، تجاه البيئة من حوله بجميع مكوناتها، حيث يأتي السلوك الإنساني في صورته الإيجابية داعما لتطور الحياة، مؤكدا لاستحقاق الإنسان خلافة الله فيها، وناشرا للجمال والخير والإحسان، ولكن الحياة ليست وجها واحدا، فكما أن السلوك الإيجابي هو جزء من حركة الحياة وتفاعل الإنسان فيها، كذلك فإن الحالة السلوكية السلبية التي تتشكل عبر صور من الأخطاء القولية والفعلية الفكرية هي الوجه الآخر للحياة بما لها من تأثير كبير على مسيرة الحياة وسلاستها وصفائها. إن الإنسان حينما يصبح ضحية لتلك الأخطاء الصادرة من شقيقه الإنسان، يهتز استقراره، وتُصادر طمأنينته حتى تصبح الحياة جحيما يكسر الذات، ويهز الثقة بالحياة والأحياء، والمحظوظ من مسته تلك الأخطاء مسًّا خفيفا لا يكسر الروح، ولا يؤذي المشاعر. والسؤال الذي يفرض نفسه في ضوء حتمية وقوع الأخطاء، ماذا لو عاد ذلك المخطئ معتذرا؟ هل نقبل اعتذاره وتعود الحياة إلى سيرورتها السابقة؟ أم هل نرفض الاعتذار وننسحب للخلف خطوات نكوصا أو ندما وحذرا؟ بالتأمل في الأمر يتضح أن المغفرة وعدم المغفرة ترتبط كثيرا بحجم ونوع الخطأ أولا ثم ثانيا بطبيعة ونوعية من وقع عليه الخطأ. إننا عندما نتتبع حالات الأخطاء سنجد مع تنوعها الكبير أن مكونات معادلة الأخطاء غالبا تتكون من ثلاثية لا يمكن فصلها، وهي: 1-المخطئ «الفاعل» 2-الذي وقع عليه الخطأ «الضحية» 3-الخطأ «فعلا، أو قولا، أو فكرا». ومن خلال النظر لهذه المعادلة يمكن الحديث عنها من عدة زوايا تتعلق بالمخطئ والضحية أساسا، إذ إن الخطأ بحجمه ومساحة تأثيره يتعاظم أو يتضاءل بالنظر إلى شخصية الذي وقع عليه الخطأ ثم قيمة وشخصية من وقع منه الخطأ مهما كان الأمر فادحا. * فخطأ الولد على الوالد مهما كان ضئيلا إلا أنه يصبح فادحا عظيما، لأنه يتصادم مع التوقعات الطبيعية للوالدين من أبنائهم برًا وصلةً وإحسانًا، ومع ذلك ينتهي الأمر غالبًا بالسماح والمغفرة من الوالدين تجاه الأبناء مهما كانت الندوب التي تركها ذلك الخطأ، وذلك بمرجعية الرحمة والمحبة غير المشروطة لدى الوالدين، أما حدوث العكس أي خطأ الوالدين على الأولاد فغالب الأمر يتعلق بثقافة المكان والبيئة، ففي بعض البيئات يُحلل الآباء من كل خطأ، بل تصبح كثير من الأفعال والأقوال التي لا تُقبل من عامة الناس في حكم المقبول والعادي من الوالدين لخصوصية العلاقة الوالدية، ولأن الأصل في الوالدين الحرص على مصالح الأولاد وعدم التفريط فيها. * خطأ الأصدقاء على بعضهم، حيث تتداخل عدة أمور في تقدير الموقف منها حجم الخطأ، وعمق العلاقة بين الطرفين، وظهور حسن أو سوء النية عند حدوث الخطأ، وهنا يغلب أن يكون السماح متوفرا لدى أهل المروءة ابتداءً أو حال طلبه مع الاعتذار عن الخطأ، والعزم على عدم التكرار، وفي هذه الحالة لا تفوتنا الإشارة إلى وجود حالات قليلة نادرة كانت الأخطاء فيها سببا في حدوث القطيعة والتنافر بين الأصدقاء، وهذا يحدث غالبا عند تراكم الأخطاء مع الوقت دون أن تكون هناك مساحة للتصحيح أولًا بأول. * خطأ الأغراب وعابري السبيل، ليست له قاعدة أو صورة يمكن أن تستنسخ في كل المواقف، فحجم الخطأ من حيث البساطة والفداحة له دور كبير في رد الفعل، وسرعة وصدق المغفرة، فكلما كان الخطأ صغيرا عابرا كلما أتت المغفرة عفوية سريعة حاسمة لأي تداعيات يمكن لها أن تفسد الوضع أو تصادر الطمأنينة، بينما إذا كان حجم الخطأ كبيرا والأضرار مؤلمة ولم تتوافر مبررات حسن النية فغالبا لا تأتي المغفرة بل تكون المؤاخذة هي الأصل. ومع ذلك فالإنسان غالبا لا يريد أن يتخندق في مساحة الخصومة والعداوة لأنها مرهقة نفسيا، ولهذا تأتي المغفرة في هذه الحالة كدواء وشفاء لصاحبها قبل الآخرين. * أخيرًا، خطأ الجماعات تجاه الجماعات المناظرة لها سواء كانت صغيرة كالقبائل أو كبيرة كالشعوب والدول، وهنا الأمور تكون أكثر تعقيدا، إلى الحد الذي تقوم فيه حروب، وتداعيات قد تطول، وسبب ذلك أن مبرر حسن النية غالبا ما يكون غير متوفر، لاستحالة أن يتمالأ الجميع على شأن دون عقد النوايا وتبصر العواقب، ولهذا تكتسب الأحداث المرتبطة بالخطأ سمة القصدية والعمد، الذي يجعل الخطأ وما يترتب عليه محل تقاضٍ وخصومة وتعويضات مهما تقادمت الأزمان، وحدوث الصلح إن حدث يكون بعد جولات من الصراع واسترداد الحقوق والكر والفر بين الطرفين، وعادة يكون الصلح في هذه الحالة عارضا مؤقتا يؤجل الصراع ولا يلغيه تماما. * ختاما، في ديننا العظيم كفل الله تعالى حقوق العباد بالقصاص، ورد الاعتداء، والزجر عن العدوان وترتيب الحدود والعقوبات حتى تبقى الحياة آمنة تتيح لكل إنسان أن يعيش مطمئنا متفرغا لأداء حقوق الله عليه، مؤديا لوظيفته الكبرى معمرا للكون مثريا للحياة، وفي نفس الوقت عظّم أمر المغفرة ورتب على حصولها الأجر العظيم، وجعلها سببًا لترميم الطرفين المخطئ والضحية، فترفع عن المخطئ إصر العقاب وتداعيات الخطأ الذي قد يكون عميقا حد إتلاف النفس، وتشجع الضحية على المبادرة إلى العفو طمعا فيما عند الله من الأجر العظيم إيمانا بقول الله تعالى ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾. وذلك حتى لا تبقى الحياة ساحة للتدافع فقط، بل مساحة للإحسان والعطاء والبذل الذي يجمّل العيش، ويسمو بالإنسان الذي أوكلت إليه دون غيره خلافة الله في الأرض وحمل رسالته.