شرفة في الأشهر الأخيرة لم تغب عيناه عن معانقة لحظات الغروب وارتشاف حمرة الشمس بشغف ويبقى في شرفته حتى ينهمر الليل وتصطف النجوم يتفرس وجوه المارة يقلب بصره ذات اليمين وذات الشمال يتحدث إلى الباعة المتجولين يمازح الصبية الذين يلعبون في الشارع وفي ذلك المساء الرمادي لم يطل كعادته ولم يروا باب الشرفة يفتح انتظروا الساعة تلو الأخرى وما كان انتظارهم إلا ضياعاً للوقت أسرعوا بالصعود لشقته ليجدوه ترك رسالة كتب فيها «عذرت ابني المسافر فهو لم يشعر ماذا يعني أن ينتظر والد ولده لذلك لم يرسل ما أطمئن به عليه فقررت السفر والبحث عنه رغم عجزي وكبري إن عدت فأنتم أبنائي وأسعد بهذا وإن مت فمن أجل ابني». حلم مؤجل على قارعة الحنين سكبت دمعاً أحرق المواعيد المورقة داخلها. هشم نضارة الورد التي تعني بها كل صباح. تعفرت المواعيد في وحل الأماني. أشغل فيها كل حواس الأم فكانت لا تكل ولا تمل فقبل أن تحزم الشمس أمتعتها مسافرة نحو الأفق تهرول تعد له كوباً من النعناع يساعده في الاسترخاء واستذكار دروسه. ترتب حجرته. تنظم كتبه. تعلق تعويذاته له في آواخر الأذان وتدس له دعواته بين كل صلاة وأخرى أن يكون النجاح حليفه هذا العام. تستيقط وتجد كل هذا حلماً فلم يزل أمامه رحلة علاجية طويلة ليتمكن من النطق والإبصار والسير على قدميه. ارتواء حبُ الأرض يسابق الدم في عروقه، لا ينفك عن الغدو والرواح يحمل وصب السنين في غدوه يواريها بين عذوق الذرة ويروح وقد امتلأ وجهه غبطة استمدها من بسوق سنابل القمح. حتى ذلك الصباحَ شديدُ الحلكة. تكاد السماء تلامس الأرض الرعود تقصف والبروق تلمع لم يأبه بما سيحل بجسده الهزيل ترك عصاه التي لم تكن تفارقه، انطلق بخطى تسابق زخات المطر ظناً منه أن تلك اليدين النحيلتين قادرتان على أن تحمي أرضهُ من الأذى.. ارتوى كل شيء ذلك الصباح، ارتوت الأرض وارتوى جَسدهُ بالوحل والسيل يجرفهما وهو متشبثُ بحفنات التراب حتى توارى عن الأنظار وارتوت الأوجان بالدموع.