حين دشنت وزارة الدفاع مؤخراً برنامج "التحول المهني" لتمكين العسكريين المتقاعدين إلى الانتقال للمسارات المدنية، لم تكن مجرد وزارة تطلق مبادرة إدارية، بل كانت ترسم طريقاً جديداً لكيفية التعامل مع "رأس المال البشري" الذي بلغ ذروة نضجه، هذه الخطوة التي جاءت بتوجيهات سمو وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان، وضعت الإصبع على الحقيقة التي طالما تجاهلتها قطاعات عديدة ، فالمتقاعد ليس "طاقة مستنفدة"، بل هو خبير ينتظر استثمار مهاراته في ميدان جديد. تكمن أهمية هذا البرنامج في كونه يكسر النظرة التقليدية القاصرة التي تعتبر التقاعد "نهاية العطاء"، لأن المتقاعد اليوم، مع تحسن جودة الحياة وارتفاع متوسط العمر المتوقع في المملكة، يمتلك قدرة على البقاء في دائرة الإنتاج لأكثر من عقد ونصف من الزمن. في تقديري .. تحويل الخبرات العسكرية المنضبطة إلى قيمة اقتصادية في سوق العمل، هو استثمار في "الولاء والجدية والاحترافية"؛ وهي صفات لا تتوفر دائماً إلا فيمن صهرتهم سنوات الخدمة الطويلة. لكن، وبالتوازي مع هذا التمكين المهني الملهم، يبرز تساؤل جوهري حول بقية أركان "الحماية" لهذه الشريحة العزيزة، فبينما تفتح "وزارة الدفاع" أبواب المسارات المدنية، مازالت هناك حاجة ملحة لأن تقتدي بقية القطاعات الحكومية والخاصة بهذا النموذج الملفت الرائع. إن الاستثمار في الخبرات يجب أن يترافق مع مظلة أمان اجتماعي وصحي شاملة، لا تنظر للمتقاعد ك "عبء حسابي" تتهرب منه شركات التأمين، بل كشريك نجاح أفنى زهرة شبابه في بناء الاقتصاد والمجتمع. ليبقى النموذج الذي قدمته اليوم "وزارة الدفاع" في مسارات التدريب، والتوظيف، وريادة الأعمال، دليلاً على أن الحلول المبتكرة ممكنة إذا ما توفرت "إرادة الوفاء"،وهي دعوة صريحة للقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني للكف عن تهميش هذه الكفاءات،فالمتقاعد يمثل "ذاكرة مؤسسية" وحكمة عملية لا يمكن استنساخها في قاعات التدريب النظرية. نحن بحاجة اليوم إلى صياغة "عقد اجتماعي ومهني" جديد مع المتقاعدين؛ عقد يضمن استمرارية عطائهم المهني كما فعلت وزارة الدفاع، ويؤمن لهم حماية صحية تليق بكرامتهم. إن الوفاء لمن خدموا الوطن لا يكون بالثناء فقط، بل بتمكينهم من مواصلة رحلة البناء في "خريف العمر" وهم يشعرون بالانتماء والتقدير، لا بالعزلة والنسيان. لقد أثبتت وزارة الدفاع أن "الاستثمار في الإنسان" لا يسقط بالتقاعد، والآن جاء الدور على بقية المؤسسات لتثبت أنها تمتلك ذات الشجاعة والوفاء لاستثمار هذه الكنوز البشرية التي لا تقدر بثمن.