كثيرًا ما أجدني في لقاءاتي اليومية مع أناس يشكون مرارة العمل، أستمع إلى القصّة ذاتها تُروى بأصوات مختلفة؛ مدير مكتب يفرض هيبته بالعنف المعنوي، مجموعة موظفين يتحالفون لإقصاء زميل، أو مسؤول يظن أنّ رفع الصوت معيار قوة. تتنوّع الحكايات والوجوه، لكن الجرح واحد، والسبب واحد، والمسار النفسي الذي ينتهي إليه الموظف غالبًا ما يكون هو ذاته. ورغم تقدّم المؤسسات في الحديث عن الحوكمة والصحة النفسية، إلا أنّ التنمّر في بيئة العمل ما زال أحد أكثر السلوكيات انتشارًا وخفاءً، وكيف لا، وهو سلوك يتغذّى على الصمت، وعلى الخوف، وعلى هشاشة الأنظمة التي لا تعالج المشكلة إلا بعد أن تستفحل. والتنمّر لا يظهر فجأة، ولا يرتبط دائمًا بصوت عالٍ أو غضب ظاهر، بل قد يتخفّى تحت ابتسامة زائفة أو مجاملة خادعة. فهناك من يمارس التنمّر بصوت مرتفع، بالصراخ والتهديد وتحويل الاجتماعات إلى ساحات إحراج عام، وهؤلاء هم "الصرّاخون". لكن الأخطر منهم "المدبّرون"، أولئك الذين يمارسون تنمّرهم بوسائل ماكرة؛ حذف زميل من رسائل البريد المهمة، وسرقة جهد الآخرين، وتزييف الحقائق، وبث الشكوك في نفوس المدراء. وكثيرًا ما نرى موظفًا متفوّقًا يجد نفسه فجأة مستبعدًا أو متهمًا بالتقصير، لا لشيء إلا لأن مهنيته أثارت غيرة من هم أقل قدرة وأكثر نزوعًا للهيمنة. والأدهى من ذلك أنّ بعض المؤسسات- عن قصد أو دون قصد- تفتح أبوابها للتنمّر حين تُخضع الترقّيات والعلاوات للمحاباة، لا للإنجاز الحقيقي. وحين تكون العدالة غائبة، يصبح التنمّر وسيلة تسلّق، ويصبح الموظف المجتهد فريسة، وينشأ ما يشبه"الحروب الباردة" داخل المكاتب، حيث لا نيران تُرى، بل جبهات تتشكّل في الظلّ. ومن المؤلم أنّ الضحية كثيرًا ما تُطلب منها الشجاعة في وقت لا تملك فيه سوى الدفاع عن بقائها. يُقال لها: وثّقي، واجهي، تحدّثي، في حين أنّ التنمّر ذاته فعلٌ ينهش أعصابها ويستنزف قدرتها على المواجهة. كثير من الموظفين ينسحبون؛ إمّا بصمت حين يقررون الاستقالة، أو بصمت داخلي حين يفقدون الحماسة ويستسلمون للتآكل البطيء. غير أنّ مواجهة التنمّر ليست دائمًا معركة خاسرة. فهناك مَن استطاع أن يكبح المتنمّر بالثبات والوضوح، لا بالانفعال. من اختار أن يكون مثل "النحلة" كما وصف أحد الباحثين؛ يعمل بجد، ويملك هويته المهنية، وله "لسعة" تحميه، قد تكون في تمسّكه بالإجراءات، أو في قوة علاقاته داخل المؤسسة، أو في ثقة رؤسائه بمهنيته. وهناك من واجه المتنمّر بالحوار الهادئ، فكشف ما وراء السلوك من خوف أو غيرة أو تهديد داخلي. وهناك أيضًا من بنى "جسرًا ذهبيًا" كما يسميه أهل التفاوض؛ طريقًا يتيح للمتنمّر التراجع دون إذلال، فيتحول الصدام إلى تفاوض، والعداء إلى مساحة فهم، وإن بقيت العلاقة باردة أو حذرة. لكن بعض المواقف لا ينفع فيها الصبر ولا الحوار، وحين يشعر الموظف بأن الضغوط تتصاعد وأن كرامته باتت في مهب الريح، يكون اللجوء إلى الإدارة، أو الموارد البشرية، أو الجهات القانونية ضرورة لا خيارًا. فالتنمّر ليس خلافًا عابرًا، بل سلوك مدمر قد يقود في أقصى حالاته إلى انهيار نفسي أو فقدان الروح المهنية، أو حتى ما هو أخطر، كما شهدت قصص مأساوية في أماكن عديدة من العالم. ويبقى السؤال الأكبر: هل تتحمل المؤسسات مسؤوليتها؟ كثير من الدراسات تكشف أنّ أكثر من نصف المؤسسات لا تتخذ أي خطوة عند الإبلاغ عن التنمّر، بل إن بعضها يعاقب الضحية بدلًا من الجاني، فتُزرع ثقافة الصمت، ويتحول المكتب إلى بيئة ملوّثة لا تنجح فيها إلا الشخصيات السامة. والحقيقة أن المؤسسة التي لا توقف المتنمّرين إنما تهدم نفسها بنفسها؛ فموظف واحد سام قادر على إلغاء أثر اثنين من أكثر النجوم أداءً، وعلى تحويل بيئة العمل إلى غابة يفرّ منها أصحاب الكفاءة. ويبقى السؤال الذي أتركه للقارئ الكريم: كيف ترى أنت هذا السلوك؟ وهل تعتقد أن بيئات العمل في عالمنا العربي تعالج التنمّر بما يكفي، أم أننا ما زلنا في بداية الطريق؟