على الرغم من المحاولات العديدة لمواجهة «التنمّر»، إلاّ أنه يمثل مشكلة اجتماعية مستمرة، خاصةً في المدارس، ليبقى تحدياً يهدد النمو النفسي للطفل، ويؤثر على ثقته بنفسه وقدرته على الإبداع والاندماج مع الآخرين، إضافة إلى أنه يُشكل عاملاً سلبياً في البيئة التعليمية، حيث يزرع الخوف والقلق بدلاً من الطمأنينة والتحفيز. والتنمّر كما عرفته وزارة الصحة هو شكل من أشكال العنف، وسلوك عدواني يتسبب فيه شخص أو مجموعة من الأشخاص عن قصد، وبشكل متكرر عدة مرات، مما يؤدي إلى إلحاق الأذى أو الضيق بالشخص المستهدف سواء كان طفلاً أو شاباً بما في ذلك الأذى الجسدي، أو النفسي، أو التعليمي، وكذلك العلاقة الاجتماعية مثل نشر الشائعات، أو استبعاده من مجموعة لإيذائه، إلى جانب التنمر الإلكتروني مثل السخرية من شخص ما، أو ترهيبه من خلال الرسائل، أو الشبكات الاجتماعية او اختراق حساب الفرد. سلوك عدواني وأكدت وزارة الصحة بقولها: لا أحد يولد متنمراً، ومع ذلك يمكن لأي شخص تطوير واكتساب سلوكيات التنمر في ظل ظروف معينة تتضمن بعض الأسباب؛ كذلك من أسبابه تعرض معظم الأطفال الذي يمارسون التنمر للتنمر من قبل، والانضمام إلى مجموعة من المتنمرين سعياً وراء الشعبية أو القبول من قبل الآخرين، أو لتجنب التعرض للتنمر، وتطوير واكتساب السلوك العدواني والتنمر في المنزل أو في المدرسة أو من خلال وسائل الإعلام، إلى جانب الشعور بالتجاهل في المنزل، أو المعاناة من علاقة سلبية مع الوالدين، وعن بعض العلامات التي تدل على التعرض للتنمر؛ فهي مثل الإصابات الجسدية كالكدمات أو الخدوش، ونمط النوم السيء، أو البدء في التبول في السرير، وتغير في عادات الأكل، وعدم الرغبة بالذهاب إلى المدرسة أو الخوف منها، والرغبة بالجلوس بمفرده وعدم المشاركة في الأنشطة، والقلق والتقلبات المزاجية والشعور بالتعاسة أو الغضب، وانخفاض وضعف التحصيل الدراسي. غياب الرقابة ولا يمكن التطرق لظاهرة التنمر بمعزل عن البيئة المدرسية التي تحتضنها، فالمدرسة، باعتبارها مؤسسة تربوية وتعليمية، قد تتحول أحياناً الى ساحة خصبة لانتشار هذا السلوك إذا غابت الرقابة وضعفت الأنظمة الرادعة، فالتنمر يجد طريقه بسهولة حين لا يلتفت المُعلّم أو الإدارة إلى السلوكيات العدوانية البسيطة التي غالباً ما تعتبر مزاحاً بين الطلاب، لتتطور لاحقاً إلى ممارسات أكثر قسوة، كما أن قصور برامج التوعية داخل المدارس يسهم في استمرار المشكلة، إذ لا يمتلك كثير من الطلبة المعرفة الكافية لتمييز الفرق بين الدعابة والسلوك المؤذي، ولا يدركون تبعات كلماتهم أو أفعالهم على زملائهم، ويضاف إلى ذلك افتقار بعض المعلمين إلى التدريب المتخصص في التعامل مع هذه الحالات، مما يجعلهم غير قادرين على التدخل السريع أو الصحيح عند وقوعها، إضافةً إلى ذلك، فإن بيئة مدرسية تفتقر إلى الأنشطة الجماعية والبرامج التي تعزز التعاون بين الطلبة، قد تغذي النزعات الفردية والعدوانية، وتجعل التنمر وسيلة لإثبات القوة أو لفت الانتباه، ومن هنا، يصبح من الضروري النظر إلى المدرسة ليس فقط كمكان للتعليم، بل حاضنة اجتماعية ينبغي أن توفر مناخاً آمناً يحد من السلوكيات السلبية ويعزز قيم الاحترام المتبادل. قوة وسيطرة ولا يقتصر التنمر على كونه سلوكاً فردياً نابعاً من دوافع شخصية، بل يمتد ليعكس بنية اجتماعية أوسع، تتداخل فيها القيم والتقاليد والعلاقات داخل المجتمع، فمن الناحية الاجتماعية، ينظر أحياناً إلى القوة والسيطرة باعتبارهما رمزين للمكانة والاحترام، وهو ما يخلق بيئة خصبة لتبرير سلوكيات التنمر، حيث يتقمص المتنمر صورة "الأقوى" الذي يفرض حضوره على الآخرين، هذا النمط من التفكير الاجتماعي يرسخ ثقافة الخضوع عند الضحية ويجعلها أقل ميلاً لمواجهة المتعدي أو التبليغ عنه، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دوراً كبيراً في إعادة إنتاج الظاهرة وتضخيمها، فمع التحول الرقمي وانتشار الهواتف الذكية بين الطلبة، ظهرت أنماط جديدة من التنمر تمارس في الفضاء الإلكتروني، مثل نشر الشائعات، السخرية العلنية، أو التشهير عبر الصور ومقاطع الفيديو، وهنا، يصبح الأثر مضاعفاً؛ لأن التنمر الإلكتروني يتجاوز حدود المدرسة ويلاحق الضحية في حياته الخاصة، ويصل إلى جمهور أوسع من المتابعين، ما يعمق الأذى النفسي والاجتماعي. وعي مجتمعي ويضاف إلى ذلك، فإن بعض الأسر والمجتمعات تنظر إلى التنمر كأمر طبيعي، أو مجرد "مزاح بريء" بين الطلبة، ما يقلل من خطورته ويؤخر التدخل لمعالجته، هذه النظرة الاجتماعية قد تكرس الظاهرة بدل الحد منها؛ لأنها تزرع في ذهن الطفل فكرة أن الاعتداء أو السخرية من الآخر ليس إلاّ نوعاً من التسلية، وفي حالات أخرى، قد يجد الضحايا أنفسهم بلا سند اجتماعي، حين يواجهون لوماً أو تجاهلاً من المحيطين بهم، مما يزيد من عزلتهم ويعمق مشكلاتهم النفسية، ومن الأبعاد الاجتماعية المهمة أيضاً تأثير الطبقات الاقتصادية والثقافية، ففي بعض المدارس، يمارس التنمر على أساس الفروق المادية أو اللهجات أو الخلفيات الاجتماعية، وهو ما يعكس انقساماً اجتماعياً يتجاوز حدود الصف الدراسي، كل هذه الأبعاد تجعل من التنمر مشكلة مجتمعية بامتياز، تحتاج إلى تدخل يتجاوز حدود المدرسة ليشمل البيت، وسائل الاعلام، المؤسسات التربوية، وصناع القرار، فمعالجة المشكلة لا تكمن فقط في تقويم سلوك فردي، أو فرض عقوبات وزيادة وعي، بل في إعادة صياغة الثقافة الاجتماعية التي تغذيه، وبناء وعي جمعي يرفض العنف اللفظي والجسدي والرمزي باعتباره خطراً على تماسك المجتمع وتطوره. برامج وقائية إن مواجهة التنمّر لا يمكن أن تتحقق عبر حملات موسمية أو إجراءات سطحية، بل تحتاج إلى خطط طويلة المدى تدمج بين الأُسرة والمدرسة والمجتمع، وتعتمد على بناء ثقافة وعي وسلوك راسخة لدى الأجيال، فالتحدي الحقيقي يكمن في تغيير البيئة التي تسمح للتنمر بالاستمرار، وليس فقط التعامل مع الحالات بعد وقوعها، وأول هذه الحلول يكمن في التربية الأُسرية، فالبيت هو خط الدفاع الأول ضد التنمر، ومن خلاله يتعلم الطفل كيف يتعامل مع الآخرين، ويكتسب قيم الاحترام، لذلك فإن برامج التوعية الموجهة للأهالي ضرورية، لتمكينهم من اكتشاف علامات التنمر مبكراً، سواء كان طفلهم ضحية أو متنمراً، كما أن تعزيز أساليب التربية الإيجابية المبنية على الحوار والاحتواء العاطفي يقلل من احتمالية نشوء السلوكيات العدوانية، وعلى المستوى المدرسي، لا بد من تبني برامج وقائية مستمرة، لا تختزل في محاضرات توعوية عابرة، بل تدمج في المنهج التربوي والأنشطة اليومية، وعلى سبيل المثال يمكن إدخال حصص تعليمية تفاعلية تركز على مهارات حل النزاع، والتعاطف مع الاخرين، وتعزيز قيم التعاون والعمل الجماعي، كذلك فإن تدريب المعلمين والاداريين على كيفية رصد حالات التنمر والتعامل معها باحترافية يعد عنصراً محورياً، إذ يفتقد كثير من الكادر التربوي إلى الأدوات العلمية لمواجهة هذه المشكلة. آليات تبليغ وهناك حاجة إلى إنشاء آليات تبليغ سرية وآمنة للطلبة، تمكن الضحايا من الإفصاح عن معاناتهم دون خوف من الانتقام أو الوصمة الاجتماعية، هذا النظام قد يكون إلكترونياً عبر منصات مدرسية، أو عبر مرشدين نفسيين متخصصين متواجدين باستمرار داخل المدارس، أمّا على الصعيد المجتمعي، فإن الإعلام يلعب دوراً محورياً في إعادة تشكيل الوعي تجاه التنمر، فمن خلال الحملات الإعلامية، والدراما الموجهة للأطفال والناشئة، يمكن نقل صورة حقيقية عن خطورة المشكلة، وإبراز آثارها النفسية والاجتماعية، وتغيير الصورة النمطية التي تستهين بها، كما يمكن للمؤسسات المدنية إطلاق مبادرات تطوعية بين الشباب لتعزيز مفهوم "الدعم بالأقران"، بحيث يكون الطلاب أنفسهم جزءاً من الحل عبر مساندة زملائهم، والتدخل الإيجابي عند رصد حالات التنمر، وعلى المستوى التشريعي، يمكن تعزيز هذه الجهود عبر سن أنظمة ولوائح مدرسية واضحة تحدد أشكال التنمر والعقوبات المترتبة عليها، مع ضمان تطبيقها بعدالة وشفافية، فالطفل، سواء كان ضحية أو متنمراً، يحتاج إلى بيئة قانونية وتربوية تحميه وتوجهه في الوقت ذاته، إن بناء هذه الاستراتيجيات مجتمعة، وبروح من التكامل بين الأسرة والمدرسة والمجتمع، يشكل خطوة جوهرية نحو بناء بيئة تعليمية آمنة وصحية، تشجع على الإبداع والنمو النفسي السليم، وتحصّن الأجيال القادمة من ظاهرة لا تهدد الأفراد فحسب، بل تترك بصمتها على مستقبل المجتمع بأكمله. دائرة سلبية ويبقى التنمر ليس مجرد سلوك عابر، بل هو انعكاس لمشكلات نفسية وتربوية واجتماعية أعمق، قد تتفاقم إذا تركت دون معالجة جذرية، وما بين ضحية تصمت خوفاً، ومتنمر يجد في ضعفه قوة زائفة، تتشكل دائرة سلبية تهدد الأمن النفسي والتعليمي داخل المجتمع المدرسي، ومع أن الجهود المبذولة للحد من الظاهرة تمثل خطوات مهمة، إلاّ أن التحدي يكمن في تحويلها من حملات آنية إلى استراتيجيات مستدامة تعيد صياغة ثقافة التعامل بين الأجيال، فالمجتمع الذي يحمي أفراده من التنمر هو مجتمع يبني مواطناً واثقاً، سوي النفس، قادراً على المساهمة الفاعلة في نهضته، والتنمر معركة وعي وتربية وتكافل، لا ينتصر فيها طرف على آخر، بل ينتصر فيها المجتمع بأكمله حين يختار العدالة والرحمة والاحترام المتبادل أساساً لعلاقاته. قد تبدأ بالمزاح لتتطور إلى ممارسات أكثر قسوة التنمّر يلحق الأذى والضيق بالشخص المستهدف