في هذه الأيام، وأنت تتنقّل في أحياء محافظة جدة وطرقها الرئيسة والفرعية، لا بد أن تلاحظ مشهدًا متكررًا: حفريات ممتدة، أسوار مؤقتة، معدات تعمل ليل نهار، ولوحات تشير إلى مشاريع تصريف مياه الأمطار. قد يضيق البعض ذرعًا بهذه المشاهد وما تسببه من بطء في الحركة أو إزعاج مؤقت، لكن المتأمل بعمق يدرك أن ما يحدث اليوم هو سباق حقيقي مع الزمن، تقوده أمانة محافظة جدة بهدف حماية الأرواح والممتلكات وبناء مدينة أكثر أمانًا واستدامة. جدة، بحكم موقعها الجغرافي وطبيعتها العمرانية وتوسّعها السريع عبر العقود، عانت طويلًا من تحديات تصريف مياه الأمطار والسيول. وقد علّمتنا التجارب السابقة، بكل ما حملته من خسائر وآلام، أن الحلول الجزئية أو المؤقتة لم تعد مجدية، وأن المدينة تحتاج إلى بنية تحتية متكاملة، عميقة الجذور، ومدروسة بعناية، حتى وإن كان ثمنها صبرًا مؤقتًا من السكان. ما تقوم به أمانة جدة اليوم ليس مجرد حفر وتمديد أنابيب، بل هو مشروع استراتيجي ضخم يعاد من خلاله رسم خريطة تصريف المياه للمدينة بأكملها. شبكات تمتد تحت الأرض، قنوات رئيسة وفرعية، محطات تجميع وضخ، وربط الأحياء القديمة بالجديدة، كل ذلك يجري في وقت واحد وفي أكثر من موقع، وكأن المدينة تخضع لعملية جراحية دقيقة لا تحتمل التأجيل. اللافت في هذا المشروع هو حجم الجهد المبذول وتسارع وتيرته. فالأعمال لا تقتصر على ساعات النهار، بل تستمر في بعض المواقع خلال الليل لتقليص مدة التنفيذ وتقليل أثر الإغلاقات على الحركة اليومية. وهذا يعكس إدراكًا واضحًا لدى الأمانة لحساسية المرحلة، وحرصًا على إنجاز المشروع في أقرب وقت ممكن، خصوصًا مع اقتراب مواسم الأمطار. صحيح أن الحفريات تسببت في ازدحام مروري، وتعطّل بعض الطرق، وتأثر حركة المشاة وأصحاب المحلات، إلا أن هذه المعاناة تبقى محدودة بزمن، إذا ما قورنت بما يمكن أن تدرأه هذه المشاريع من مخاطر مستقبلية. فالشارع الذي نتحمّل ضيقه اليوم، قد يكون غدًا سببًا في إنقاذ أرواح ومنع غرق منازل أو محاصرة أحياء بأكملها. كما أن هذا المشروع ينسجم مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 التي تضع جودة الحياة وسلامة المدن في صدارة أولوياتها. فلا يمكن الحديث عن مدينة عصرية وجاذبة للاستثمار والسياحة، دون بنية تحتية قوية قادرة على مواجهة التغيرات المناخية والظواهر الجوية المتطرفة. وجدة، بوصفها بوابة الحرمين الشريفين وعروس البحر الأحمر، تستحق أن تكون نموذجًا يحتذى به في التخطيط الحضري والوقاية قبل العلاج. من المهم أيضًا الإشادة بالتنسيق القائم بين الجهات ذات العلاقة، سواء في تحويلات المرور، أو إعادة السفلتة، أو التواصل مع السكان عبر اللوحات الإرشادية والإعلانات. ورغم وجود بعض الملاحظات التي يمكن تطويرها، إلا أن الصورة العامة تعكس عملاً جادًا ومشروعًا لا يحتمل التأجيل أو التسويف. في النهاية، نحن أمام خيارين: إما أن نرفض الإزعاج المؤقت ونطالب بالراحة الآنية، أو أن نتحمّل قليلًا اليوم لنحصد أمانًا واستقرارًا لسنوات طويلة قادمة. وما تقوم به أمانة محافظة جدة اليوم هو اختيار شجاع للمستقبل، ورسالة واضحة بأن دروس الماضي لن تُنسى، وأن سلامة الإنسان فوق كل اعتبار. قد تتعب الطرق اليوم، وقد تضيق الشوارع، لكن جدة الغد ستكون أكثر استعدادًا، وأكثر أمانًا، وأكثر قدرة على مواجهة المطر حين يهطل، لا بالخوف والقلق، بل بثقة في بنية تحتية أُنجزت بعزم، وفي وقتٍ كانت فيه الأمانة تسابق الزمن فشكرا لأمين محافظه جدة صالح التركي على متابعة المشروع وإنجازه بالوقت المحدد له.