رغم الاستثمارات الضخمة التي وجهتها المملكة نحو البنية التحتية للقطاع الصحي وبناء المدن الطبية والمستشفيات التخصصية الحديثة، يظهر تحليل عميق في المنظومة الصحية الحالية وجود مفارقة تنظيمية، فبينما يتم التركيز على تحقيق الريادة في العمليات التخصصية المعقدة، مازلنا نسعى للوصول إلى الجودة والكفاءة المأمولة في الرعاية الصحية الأولية القريبة جدا من المريض. هذا التباين يمثل تحدياً إدارياً ومالياً كبيراً، حيث يمكن أن يصبح التركيز على التخصص "فخا" يؤدي إلى تباعد بين المنجزات الكبرى والحاجة الملحة لتعزيز الركيزة الأساسية للصحة المجتمعية والوقائية. اليوم.. الرعاية الأولية هي خط الدفاع الأول ضد الأمراض المزمنة، وهي المسؤولة عن الكشف المبكر والوقاية، وإدارة الأمراض الشائعة، حيث يؤدي عدم الوصول إلى الجودة المنشودة في هذه الرعاية حتما إلى تحميل غير ضروري ومكلف للمستشفيات التخصصية، حيث تصلها حالات كان يمكن علاجها أو السيطرة عليها بفعالية أكبر على مستوى المراكز الصحية، مما يساهم في رقع التكاليف التشغيلية للنظام بأكمله، ويهدر الموارد المتاحة، ويسهم في إطالة قوائم الانتظار في المستشفيات الكبرى، مما يؤثر على تجربة المريض ويؤجل تحقيق مستهدفات الجودة الكاملة في التحول الصحي. في تقديري.. تقوية الرعاية الصحية الأولية هي سياسة اقتصادية رشيدة قبل أن تكون سياسة صحية، لضمان استدامة النظام الصحي بأكمله وتوجيه الموارد نحو الأماكن الأكثر احتياجا، ولضمان نجاح التحول الصحي، تجب إعادة توجيه بوصلة الاستثمار والاهتمام بشكل جذري نحو مراكز الرعاية الأولية، للوصول بها إلى المعايير المرجوة، إذ يتطلب هذا الأمر معالجة ثلاثة تحديات رئيسية: أولا: تحدي التمويل والكوادر، حيث يجب تحسين بيئة العمل ومستويات الأجور والحوافز بشكل خاص في مراكز الرعاية الأولية، لاستقطاب الكفاءات الطبية والتمريضية عالية التأهيل، ويتطلب ذلك نموذج تمويل يربط المكافآت بجودة الخدمة المقدمة في الرعاية الأولية، وليس فقط بعدد المرضى الذين تتم معالجتهم. ثانيا: تحدي التمكين التقني، تلك النقطة التي تستلزم توفير التجهيزات التشخيصية الأساسية في هذه المراكز، والأهم من ذلك، ربطها رقميا بشكل فعال بالمستشفيات المرجعية والتخصصية عبر نظام "حارس بوابة" إلكتروني قوي، لضمان أن تصل الحالات المعقدة فقط إلى المستشفيات التخصصية، مما يعزز مفهوم الطب الوقائي. ثالثا: تحدي الثقة المجتمعية، هذا المحور المهم يتطلب العمل على رفع مستوى الثقة في جودة خدمات المراكز الصحية الأولية عبر برامج تحسين مستمر وإعادة تأهيل هذه المراكز، لتصبح الوجهة العلاجية الأولى والمفضلة للمواطنين والمقيمين. أخيرا؛ معالجة هذه الفجوة والعمل على تحقيق الجودة المنشودة يضمنان أن يستفيد النظام الصحي من كامل طاقته، ويتحول إلى منظومة متكاملة تضع الوقاية والكفاءة في صدارة أولوياتها.