الحسني: المكان فضاء حاضن للمعنى الفيصل: نجد وقود حقيقي لإلهام الشعراء الفارس: بين الجغرافيا والتكوين الثقافي تأثير متبادل المطيري: الأسرة حاضنة للقيم وبناء الهوية استضاف مقهى السبعينات بالرياض لقاء ثقافياً نوعياً بعنوان "الجغرافيا الثقافية لمنطقة نجد"، بحضور نخبة من المثقفين، وبمشاركة أربعة متحدثين قدّموا قراءات معمّقة في علاقة الإنسان بالمكان وارتباط الجغرافيا بالنقد والأدب والهوية والتحولات الوطنية. أدار الندوة الدكتور عبد الله العمري، الذي أكد في افتتاحها أن الحديث عن نجد هو حديث عن منطقة أسهمت تاريخيًا في تشكيل الوعي العربي، وباتت اليوم جزءًا من مشروع وطني ثقافي وحضاري يتقدّم بخطى واضحة. اللقاء كان بمثابة رحلة ممتدة في ذاكرة المكان السعودي، وقراءة لطبقات تأثيره على الشعر، والنقد، والتنشئة، والوعي الوطني في زمن تتشكّل فيه المدن والإنسان معًا ضمن رؤية قيادية شاملة. امتد اللقاء قرابة الساعتين، وتنوّعت أوراقه بين الأدبي والتاريخي والتحليلي والوطني، مما جعله واحداً من اللقاءات النادرة التي تجمع بين عمق الجغرافيا ودينامية التحوّل الاجتماعي. استهلّ الأستاذ الدكتور محمد بن عبدالعزيز الفيصل اللقاء بورقة كشفت كيف كانت جغرافيا نجد هي الخيط الأول في نسيج الشعر العربي القديم. لم يقدّم الفيصل ورقة بحثية تقليدية، بل اصطحب الحضور إلى ليالي نجد، داعيًا الجميع للتأمل: كيف يمكن لشاعر عاش قبل 1500 عام أن يصنع صورًا ما زالت تستوقف النقد الحديث؟ أعاد الفيصل قراءة أبيات امرئ القيس وعمرو بن كلثوم ولبيد بن ربيعة، موضحًا أن جبال طويق ويذبل وسهول اليمامة ليست أسماء جغرافية جامدة، بل أدوات جمالية صاغ بها الشعراء مشاهد تتجاوز حدود زمانها. ورأى الفيصل أن النقد العربي نفسه - منذ ابن سلام وابن قتيبة - نشأ على ضفاف هذه الجغرافيا، لأن الشعراء كانوا يرسمون المكان بدقة جعلت النقاد ينشغلون بتحليل "كيف استطاعت هذه البيئة إنتاج هذا الخيال؟". جاءت مداخلة الدكتور محمد عبد الرحمن الفارس تحت عنوان "التأثّر والتأثير" لتقدّم قراءة علمية موسّعة في المفاهيم الثلاثة التي تشكّل جوهر هذه الندوة: الجغرافيا، والثقافة، ونجد. وأوضح الفارس أن الجغرافيا ليست مجرد وصف للأرض، بل علم معنيّ بدراسة تفاعل الظاهرات في المكان، سواء كانت محسوسة كالتضاريس والغطاء النباتي، أو معنوية كالظواهر الاجتماعية، مستشهدًا بنسبة الأمية مثالًا على الظواهر التي يمكن رسم خرائط مكانية توضّح تبايناتها في منطقة ما. أما الثقافة -في رؤيته- فهي مجمل الفكر الإنساني لشعب من الشعوب، تتأثر بجغرافيته وتؤثر فيه، إذ ينعكس الوعي المكاني على سلوك الإنسان الذي يصوغ بدوره حضارة ذات شخصية خاصة. ثم تناول الفارس مفهوم نجد بوصفه مصطلحًا تاريخيًا متجذّرًا، موضحًا أن حدوده ليست خطوطًا دقيقة، بل تخوم انتقالية بين بيئات متعددة تمتد من نهايات جبال الحجاز والحِرار في الغرب، إلى الدهناء التي تحتضن قلب نجد من الشرق، ومن جهة الشمال إلى النفود الكبير، والربع الخالي جنوبًا. وبيّن أن نجد يغلب عليها الطابع الصحراوي، وتنقسم إلى قسمين: الغربية التي تُعدّ جزءًا من الدرع العربي وتُسمّى "عالية نجد"، والشرقية الواقعة فوق الرف الرسوبي. كما أكد الفارس أن نجد بقيت إرثًا ثقافيًا راسخًا في الوجدان العربي، وأنها صاغت هوية العرب في جاهليتهم وإسلامهم، وأن الحنين إليها لا يزال حيًا، حتى إن كثيرًا من أهلها يطلقون اسم "نجد" على بناتهم تعبيرًا عن الارتباط العاطفي بالمكان. وأضاف أن الباحث إذا بحث عن "نجد" في الخرائط الحديثة فلن يجدها إلا في الخرائط الأدبية والتاريخية، فلا وجود لها على اللوحات الإرشادية أو الخرائط الرسمية، ما يجعل استعادة الهوية المكانية تحديًا ذا أهمية. لكن الفارس يرى بوادر مشرقة في هذا العهد الزاهر للمحافظة على سمات نجد، من خلال مبادرتين وطنيتين بارزتين: الأولى: المحميات الملكية، وفي مقدمتها محمية الملك عبد العزيز ومحمية طويق، اللتان شكّلتا ثورة في حماية البيئة النجدية واستعادة عبقها الطبيعي. الثانية: العمارة السلمانية، التي تُعيد إنتاج العمارة النجدية بروح حديثة تنطلق من قلب الرياض، مع الحفاظ على الخصوصية البصرية للمنطقة. واختتم الفارس ورقته بتطلّع وطني أن تستعاد -ولو بصورة رمزية- بعض الأسماء النجدية القديمة بوصفها مسميات رديفة للمسميات الحديثة، داعيًا إلى أن يكون اسم "حجر اليمامة" مثلًا حاضرًا في لوحة تذكارية أو علامة سياحية تعيد ربط الإنسان بتاريخ المكان. وفي ورقة تربوية اجتماعية واسعة، تناولت الدكتورة نجوى المطيري مسؤولية الجغرافيا الثقافية في تكوين الانتماء لدى الشباب، مؤكدة أن الجغرافيا ليست تربة فقط، بل قيمة تُغرس في الوعي منذ سنوات الطفولة. واستعرضت المطيري منظومة متكاملة لتشكيل الهوية، تبدأ من الأسرة باعتبارها الذاكرة الأولى للقيم النجدية، ثم المدرسة التي تعزز هذا الوعي عبر المناهج والنشاطات، ثم الإعلام الذي أصبح لاعبًا أساسيًا في تشكيل صورة المكان لدى الجيل الجديد، وصولاً إلى فعاليات المجتمع المحلي التي تجعل من المكان مهرجانًا دائمًا للذاكرة. ورأت المطيري أن الحفاظ على الهوية اليوم لا يعني الانغلاق، بل يعني تزويد الشباب بجذور قوية تجعلهم قادرين على التفاعل مع العالم دون أن يفقدوا إحساسهم بالمكان. بعدها قدم الزميل عبدالله الحسني مدير تحرير الشؤون الثقافية ورقة تحدث فيها عن الجغرافيا ليس بوصفها تضاريس، بل عن المكان باعتباره مشروعًا وطنيًا تقوده القيادة الرشيدة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله-. واستعرض الحسني أثر ميثاق العمارة السلمانية، وهو الميثاق الذي أعاد للمكان السعودي روحه البصرية وهويته التي تعكس جمال العمارة النجدية وخصوصيتها التاريخية. كما أوضح أن هذا الميثاق لا يبني المدن فحسب، بل يعيد بناء العلاقة الثقافية بين الإنسان والمكان، فيشعر المواطن بأن مدينته تعبّر عنه وعن ذاكرته. وقال الحسني في ورقته: إن التحول الوطني الكبير أعاد للمكان مكانته في تشكيل الهوية، وإن المدن التي تُبنى اليوم ليست "خرسانة" بل خطاب ثقافي وجمالي يجعل من الجغرافيا رفيقًا للإنسان في رحلته نحو المستقبل. قدّمت الندوة مشهدًا ثقافيًا ثريًا أعاد التعريف بنجد بوصفها منطقة منتجة للمعنى، لا يمكن فصل تاريخها عن شعرها، ولا حاضرها عن مشاريعها الوطنية الحديثة. وبدا واضحًا أن الجغرافيا ليست "علمًا" فقط، بل قوة تصوغ الأدب، والسلوك، والهوية، والمدينة، والإنسان. وكل ورقة من أوراق الندوة أعادت صياغة هذا المعنى بطريقتها، لتتآلف في نهاية المطاف صورة واحدة: أن نجد ليست مكانًا، بل أحد روافد الوعي السعودي الممتد عبر الزمن. وشهدت الندوة العديد من المداخلات الثرية بدأها الكاتب عوضة الدوسي والروائية د. ظافرة القحطاني والدكتور صالح معيض الغامدي والأستاذ عوض رشيد الهجلة واللواء شلاح الحربي. د. محمد الفيصل وورقة نقدية عن نجد وبجانبه د. محمد الفارس ود. عبدالله العمري والزميل عبدالله الحسني جانب من الحضور د. نجوى المطيري وورقة عن التنشئة الثقافية ودورها في بناء الهوية