في كتابه "هذا ما قلته وهذا ما كتبته" يطل علينا المؤرخ والكاتب حمود المزيني بعملٍ مختلف، يجمع بين التوثيق والبوح، بين التاريخ والفكر، وبين التجربة الشخصية والهمّ الوطني. إنه ليس مجرد كتاب يضم مقالات متفرقة، بل هو رحلة عمر امتدت لأكثر من أربعين عاماً، أراد المؤلف أن يحفظها من التبعثر، وأن يقدمها للقارئ كمرآة لمرحلة غنية بالحراك الاجتماعي والفكري في المملكة. المزيني، تنقل بين مواقع متعددة في وزارة التعليم ثم في القطاع الخاص، وشارك في مجالس ثقافية ورياضية وتجارية، حيث عمل بإدارة التعليم بمحافظة المجمعة ثم مديرًا للأكاديمية الدولية للعلوم الصحية بالمجمعة ومشرفًا على أكاديمية البنات، وهو أحد أعضاء الشرف بنادي الفيحاء، وعضو لجنة موسوعة التعليم بالمملكة التي شكلها وزير التعليم السابق د.محمد بن أحمد الرشيد، وهو أيضاً كاتب في صحيفة الجزيرة والرياض والوطن وبعض المجلات، ومؤلف كتاب "إقليم سدير" وكتاب "تاريخ التعليم بمحافظة المجمعة". وهو في كتابه الجديد يكتب بعين المؤرخ ووجدان المثقف. فهو لا يكتفي بسرد الوقائع أو إعادة نشر المقالات، بل يضعها في سياقها الزمني والاجتماعي، ليكشف لنا كيف كان المجتمع يعيش مخاضاً فكرياً، وكيف كانت المقالة الصحفية أحياناً ساحة جدل وصراع بين تيارات متباينة. الكتاب يضم موضوعات تاريخية واجتماعية وأدبية ووطنية، وكلها تعكس تنوع اهتمامات المؤلف وعمق تجربته. وقد حرص على أن يجمع المقالات المتقاربة تحت عناوين محددة، ليجعل القراءة أكثر سلاسة، وليتيح للقارئ أن يتنقل بين المحاور وكأنه يسير في معرضٍ فكري يضم لوحات متعددة، لكنها جميعاً تنتمي إلى روح واحدة. ما يميز هذا العمل أنه لا يكتفي بالتوثيق، بل يحمل في طياته رسالة تحفيزية: أن الكلمة الصادقة تبقى، وأن المقالة التي تُكتب في لحظة صدق قد تتحول إلى وثيقة تاريخية بعد سنوات. كثير من الأفكار التي طرحها المزيني تبدو وكأنها كانت تستشرف المستقبل، وتنسجم مع الرؤية الحضارية التي تعيشها المملكة في عهدها الزاهر. ولا يمكن قراءة هذا الكتاب دون التوقف عند محافظة المجمعة التي شكّلت ميدان التجربة الأولى للمؤلف، وبيئة غنية بالذكريات والروابط الاجتماعية والثقافية. فالمجمعة تبدو منبعاً لإلهامه، ومسرحاً لتجربته العملية والفكرية، حيث عمل في مؤسساتها التعليمية، وشارك في مجالسها التجارية والثقافية، وأسهم في أنشطتها الرياضية والاجتماعية. هذا الانغماس العميق في تفاصيل المحافظة جعل كتاباته تحمل نكهة المكان وروحه، وتعكس صورة مجتمع يتطور ويواكب التحولات الوطنية الكبرى. ومن هنا، فإن أثر المجمعة في كتابه حاضر في كل صفحة، كظلٍ يرافق الكلمة، وكجذورٍ تمنح النصوص صدقها ودفئها. إن قراءة هذا الكتاب ليست مجرد عودة إلى الماضي، بل هي دعوة للتأمل في مسيرة وطن، وفي تطور الفكر والمجتمع، وفي قيمة أن يؤرخ الإنسان لفترات حياته ليستلهم مها الجيل الحالي الحكمة والمعرفة.