لو لم أكن شاهد عيان على تلك الأمسية الملكية الخالدة، لظننت أن المقاطع المتداولة مجرد توليد متقن من الذكاء الاصطناعي! كيف لا، وفنان العرب، وهو على مشارف الثمانين، يقف على المسرح لأكثر من أربع ساعات متواصلة، مقدما أداء خياليا من وحي عمالقة الطرب، ليثبت مرة أخرى لماذا هو الأيقونة التي لا تضاهى في الفن العربي. سبعة عقود من العطاء الفني ليست مجرد مسافة زمنية؛ بل هي شهادة على ظاهرة نادرة لا تتكرر؛ فهو أشبه بوردة تنتج عطرا لعقود دون أن تذبل، وضوءا لا يخفت مهما تقدمت به السنون. محمد عبده اليوم ليس فنانا يغني للاستعراض، بل هو مؤرخ للمشاعر بامتياز يمتلك حكمة الطرب. صوته في هذا العمر صار أعمق وأكثر هدوءا، وغنيا بما يشبه حكمة الوقار، لم يعد يعتمد على الطاقة الشبابية وقوة الحنجرة المعهودة، بل على مخزون عميق من الإحساس والتجربة، هو يحلق بالكلمة إلى مداها السماوي وفقا لعمق المعنى في القلب، يختار طبقة الأداء التي تخدم صدق التعبير بدلا من المهارة الاستعراضية، وفي كل مقطع وكوبليه، يتجلى أثر فنان عاش تفاصيل الأغنية قبل أن يقدمها للجمهور. هذا الصوت هو الذي عاش فينا قبل أن نسمعه، لقد رافق أجيالا كاملة؛ كنا نفتح الراديو على أغانٍ مثل "أيّوه، وأوّاه، ويا مركب الهند.."، فكانت الأنغام تتسلل إلى بلاط البيت وتستقيم معها الذاكرة. ثم رأيناه على الشاشة واقفا بهيبة فريدة، وصمت يسبق الغناء ويزيل العناء. وحين غنى: "من بادي الوقت.." شعرنا أن الزمن خلق لتوّه! عقب ذلك دخلنا المسارح فوجدناه دائما الأول صعودا والأخير نزولا، يتركنا في حالة من الذهول الجميل: هل هو يغني؟ أم يلخّص أعمارنا ويخلّص همومنا في لحن؟ ثم ورثه الأبناء وهم يرددون "الأماكن كلها مشتاقة لك" دون أن يعرفوا أنها جملة رسمت بها ملامح قلوبنا، وأنها ليست مجرد أغنية بل لحظة من الوطن تختبئ في صوت. وفي زمن السوشال ميديا، صار صوته لغة يستخدم للتعبير عن الحب والفقد والدهشة، وكأن كل صوت بعده مجرد محاولة لتقليد الأصل، تظل نبرته الذهبية موجودة، نبرة لا تشيخ ولا تتبدل، بل تتغير طريقة حضورها لتكون أكثر دفئا ووقارا وقدرة على لمس الروح دون مجهود. كانت حفلة حافلة وليلة ليلاء أيقظت الذاكرة وهزمت منطق الأجيال. ففي تلك الليلة، ذاب حاجز الزمن، والتقت الأجيال والتفّت الأطياف وهتفت الحناجر لصوت واحد، صوت أثبت أن الإحساس المتراكم عبر السنين، هو القوة الأعظم القادرة على لمس الروح وتوحيد القلوب، بخلاف الأغاني اللحظية العابرة التي نشاهدها ثم سرعان ما ينتهي زمن صلاحيتها. * بصيرة: محمد عبده ليس نهاية حقبة، بل هو النبع الذي يروي أجيالًا قادمة بحكمة نغم خالد.