في سماء الفن العربي، تظل أصوات قليلة قادرة على أن تحفر حضورها في وجدان الناس، لا بمجرد عذوبة الألحان، بل بصدق التجربة الإنسانية التي تختبئ خلف كل نغمة. الفنانة أنغام واحدة من تلك الأصوات النادرة، صوت يحمل بين طبقاته دفء الأمومة، وصدق المعاناة، ورهافة الإحساس، حتى غدت أغنياتها مرآةً لقلوب محبيها، تتردد في البيوت والمقاهي والسيارات وكأنها رفيقة الروح. وليس الفن عند أنغام مجرد حرفة أو طريق للشهرة، بل هو رحلة عمر واجهت فيها ما يكفي من المحن لتجعلها أكثر قوة وأكثر صلابة. حين مرّت بأزماتها الصحية الأخيرة، ووقفت على أعتاب الخطر، لم يكن ذلك المشهد بعيداً عن ذاكرة الفن العربي التي تحفظ ملامح تجربة عبد الحليم حافظ، ذلك العندليب الأسمر الذي عاش سنوات طويلة يصالح ألمه بجرس صوته، فيغني للحب والوطن والإنسان وكأنه يغني للحياة ذاتها. كلاهما، أنغام وعبد الحليم، عاش الفن بوصفه قدراً لا مجرد مهنة. عبد الحليم، بصوته الذي خرج من بين أنفاس مثقلة بالمرض، أعطى للأمة العربية صوتها العاطفي في لحظات الانتصار والانكسار، وظل رغم معاناته الطبية رمزاً للقوة التي تولد من رحم الضعف. وأنغام، من جيل آخر، تعيد إحياء هذا النموذج وهي تواجه آلامها بابتسامة، وتعود إلى جمهورها أكثر إشراقاً، وكأن الغناء هو دواؤها، وكأن المسرح هو المستشفى الحقيقي الذي يمنحها شفاءً لا يعرفه الطب. ولعلّ المشهد الأصدق على هذا التشابه بين الفن والألم، ما جسّدته أنغام في مهرجان العلمين الأخير بنسخته الثالثة، حين وقفت على المسرح وهي تحمل وجعها بصمت النبلاء. كانت تبتسم لجمهورها وتغني بكل ما تبقى في صدرها من أنفاس، كأنها تخفي خلف كل نغمة ثِقل المرض لتمنح جمهورها فرحاً صافياً لا تشوبه مرارة. ذلك الموقف لم يكن مجرد حفل غنائي، بل درس في الوفاء للفن والجمهور، حيث غلبت الإرادة الوجع، وانتصرت الموسيقى على التعب. وهكذا، بدت أنغام وهي تغني في العلمين امتداداً لصورة عبد الحليم وهو يتحدى الألم على المسارح، فيلتقي الماضي بالحاضر مرة أخرى ليؤكد أن الأصوات الصادقة لا تنحني، وأن الفن العظيم يولد في أحضان المعاناة. وإذا كان عبدالحليم قد غادر تاركاً إرثاً يزداد توهجاً مع مرور السنوات، فإن أنغام تواصل اليوم حمل الشعلة نفسها، تغني للحب والوفاء والفقد والأمل، بصوت يتسع لكل ما يحتمل في القلوب. هكذا يلتقي الماضي بالحاضر في مشهد إنساني واحد: فنان يواجه المرض بالغناء، وامرأة تواجه محنتها بالصوت ذاته. إنها الحقيقة البسيطة التي تجعل الفن أعظم من أي جرح، وتؤكد أن الموسيقى لا تعرف الهزيمة.