في صمت الرمال، وبين تضاريس الصخر، وجنون التنوع تتحدث المملكة العربية السعودية بلغة التاريخ، وموطن الحضارات المتعاقبة، وشاهد حي على ولادة الإنسان، وتطور العمران، وتلاقي الثقافات. تسعى المملكة، من خلال رؤية 2030، إلى إعادة تعريف موقعها الحضاري عالميًا كأرض زاخرة بالإرث الإنساني، والمادي والطبيعي، وقد باشرت الجهات المختصة، كمنظومة الثقافة، في خطوات نوعية للحفاظ على الآثار، وتسجيلها في قائمة التراث العالمي (اليونسكو)، لتصبح هذه المواقع رواة لقصة وطن لم ينقطع عن التاريخ. في محافظة المذنب، جنوب منطقة القصيم، ينبض سوق «المجلس الشعبي» بالحياة كل جمعة، جامعًا الماضي والحاضر في مشهد تراثي ساحر. فالسوق ليس مجرد مكان لعرض وبيع المنتجات، بل هو متحف حيّ يعكس تفاصيل الحياة القديمة في المنطقة، ويعيد زائريه إلى زمن الماضي وأهازيج الرواد ودفء المجالس الشعبية. «حراج الجمعة وحكايا الكتاتيب» يحتضن السوق مزادات أسبوعية تعرض قطعًا تراثية نادرة كالأواني القديمة والمباخر وآلة «الرَحى»، ويقدّم مشاهد حية تحاكي الدراسة في «الكتاتيب»، حيث كان الطلاب يتلقون العلم بطرق بدائية بسيطة لكنها أصيلة. وتُعرض في السوق أيضًا مشاهد يومية لأعمال الزراعة القديمة، وطرق استخراج المياه من الآبار، يؤديها كبار السن ممن عاصروا تلك المهن، مصحوبة بأهازيج شعبية تعكس روح المكان. «إحياء السوق بطابع معماري أصيل» في خطوة رائدة للحفاظ على هوية المنطقة، أعادت بلدية محافظة المذنب بالتعاون مع الهيئة العامة للسياحة والآثار ترميم سوق المجلس الشعبي، مع الحفاظ الكامل على طرازه المعماري القديم. تمّت الاستعانة بكبار السن ممن عايشوا السوق ليكون الترميم ذا ذاكرة حقيقية، شمل ذلك ترميم البيوت الشرقية والشمالية، والمدرسة القديمة، ومسجد قصر باهلة المجاور والكثير من تفاصيل المكان. «تواريخ تصنعها المدن» يُعد السوق أحد أبرز معالم «الديرة القديمة» شرق قصر باهلة التاريخي الذي يعود للقرن العاشر الهجري. وكان السوق ملازمًا للمسجد الجامع، حيث يقع باب القصر في مواجهة الجامع من الناحية الشمالية الغربية. هذا التكوين العمراني المتناغم يعكس فلسفة المكان، التي جمعت بين العبادة، والتجارة، والحياة الاجتماعية في نسيج واحد. وتعود أصول مدينة المذنب إلى منتصف القرن السادس الهجري، ويظهر ذلك جليًا في الحجارة القديمة التي ما زالت ماثلة على ضفاف الأودية التي تمر بها السيول القادمة من الخرماء وخريمان، في مشهد طبيعي ومعماري متكامل. «فرص استثمارية في قلب التراث» اليوم، لا يقتصر دور سوق المجلس على كونه معلمًا تراثيًا، بل أصبح منصة حقيقية للاستثمار في التراث العمراني. المحال التجارية المنتشرة في السوق توفّر فرصة بيع وشراء لكل ما يتعلق بالتراث، إلى جانب فرص اقتصادية واعدة، مثل تأسيس مطاعم شعبية، وبيع المقتنيات الأثرية، وإنشاء مكاتب تنظيم رحلات سياحية مصحوبة بمرشدين من أهالي المنطقة العارفين بتاريخها. «قصة تستحق أن تروى» يستحق سوق المجلس الشعبي في المذنب أن يُروى في كتب التراث، لا لكونه سوقًا فحسب، بل لأنه صوت من الماضي لا يزال يُسمَع، وتاريخٌ ما زال يُعاش، ومثال يُحتذى في كيفية تحويل الذاكرة الشعبية إلى تجربة سياحية واقتصادية متكاملة.