من مظاهر سماحة الإسلام واعتداله تشريعُه لكلّ ما من شأنه أن يُجريَ أمورَ الناس على السّداد والسلاسة، وعلى ذلك جاءت تشريعاته في الشؤون الأسرية والمعاملات والعقوبات والشأن العامّ كلّه، ومن ذلك إناطةُ الشأن العامّ بوليّ أمر المسلمين، فلا شكَّ أن الناس لو تُركوا وما يحلو لهم في حياتهم لألحق بعضُهم ببعض عنتاً شديداً، ونال القوي من الضعيف كلما أراد ذلك.. خلق الله تعالى الثّقلين لعبادته وحده لا شريك له، مع غناه عنهم غنًى مطلقاً، فلا يزداد ملكُه بطاعة مطيعٍ، ولا ينقصُ بعصيان عاصٍ، فثمرات الطاعة إنما ينتفع به المطيع، وعواقب العصيان إنما يصطلي بها العاصي؛ ولكون التكاليف اختباراً أرسل الله تعالى إلى قوم رسولاً من أنفسهم، يصدّق به من غلّبَ فطرتَه السليمةَ على هواه، ويشكّك فيه من حمله الهوى على استنكاف الاستماع لبشرٍ مثله، وما من رسولٍ إلَّا وعنوانُ رسالته الدَّعوةُ إلى توحيد الله تعالى، ثمَّ يأتي من الشرائع بما اقتضتهُ الحكمةُ الربّانيّةُ حسبَ أحوال الأمم، ولمّا أراد الله تعالى ختم الرسل عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أرسلَ سيّدَهم وخاتمَهم بشريعة خاتمة شاملة، موجَّهة إلى الثَّقَلين في سائر الأزمنة والأمكنة، ومن رحمة الله تعالى بعباده أن جعلَ عمومَ هذه الشريعة المحمّديّة مصحوباً بسماحتها واعتدالها ووسطيَّتها، فكانتْ رحمةً مطلقةً، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً للْعَالَمينَ)، فكانت أوامرُها كفيلةً بتحصيل المصالح وتكميلها، وكانت نواهيها كافيةً لدفع المفاسد وتقليلها، حاميةً للحُرمات التي لا يتسامحُ الناسُ ولا يتعايشونَ إلا إذا احترموا حُدودَها، فهي لم تكتف بالحضّ على السّماحة فقط، بل أعانتْ على تطبيقها وسوَّرتْها بأسوارٍ من التَّشريعات والأوامر والنّواهي، وفوَّضت إلى ولاة الأمور منع الإنسان من أن يتسوَّر منها ما يُنافي العصمةَ.. ولي مع سماحة الإسلام وقفات: الأولى: سماحة الإسلام تتجسّد في الاعتدال المحمود، فما من تفريط وإفراط إلَّا ونظرُ الشَّرع الحنيف متوسّطٌ بينهما، فكانَ ممثلاً للأفضليّة المنوطة بالاعتدال، وبهذه الوسطيّة استحقّت الأمة أن تكون شاهدةً على غيرها من الأمم، كما قال تعالى: (وَكَذَلكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس)، وإنما يُختارُ للشهادة من ترفّع عن الإفراط والتفريط، فإذا ثبت أن هذا الأمرَ مما جاءت به الشَّريعةُ فالإخلالُ بأدنى ما قررته فيه تفريطٌ، والتقيُّد الملتزم بما أطلقته إفراطٌ، وكلاهما مذمومٌ، وقد قال بعض السلف: (الاقْتصَادُ في السُّنَّة خَيْرٌ منَ الاجْتهَاد في الْبدْعَة)، ولَمّا فهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم من بعض أصحابه أنّه يتّجه إلى منهج إلزام النفس بما أطلقَ التَّرغيبُ فيه حذّر من هذا المنزلق، وبيَّن سوءَ عاقبته، فعن أَنَسٍ رضي الله تعالى عنه، أَنَّ نَفَرًا منْ أَصْحَاب النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ عَنْ عَمَله في السّرّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فرَاش، فَحَمدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْه. فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكنّي أُصَلّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطرُ، وَأَتَزَوَّجُ النّسَاءَ، فَمَنْ رَغبَ عَنْ سُنَّتي فَلَيْسَ منّي»، متفق عليه، وهذا الضابطُ من صميم السماحة؛ لأن بعضَ النفوس ميّالةٌ إلى الاستغراق فيما دخلتْ فيه، فلو تُرك الإنسانُ ليتعبّد كما يتصوّرُ، لصارَ عمله تبعاً لهواه، ولم يُخاطب بهذا، وإنما خوطبَ بأن يتَّبع الرسولَ صلى الله عليه وسلم. الثانية: من مظاهر سماحة الإسلام واعتداله تشريعُه لكلّ ما من شأنه أن يُجريَ أمورَ الناس على السّداد والسلاسة، وعلى ذلك جاءت تشريعاته في الشؤون الأسرية والمعاملات والعقوبات والشأن العامّ كلّه، ومن ذلك إناطةُ الشأن العامّ بوليّ أمر المسلمين، فلا شكَّ أن الناسَ لو تُركوا وما يحلو لهم في حياتهم لألحق بعضُهم ببعض عنتاً شديداً، ونال القويُّ من الضعيف كلَّما أراد ذلك؛ ولهذا رُسمت معالمُ الحقوق، وأُنيط النظر العامُّ إلى صاحب الولاية، وفي هذا توسُّطٌ بين التفريط المتمثّل في ترك الناس همَلاً بلا وازعٍ ولا آمرٍ ولا ناهٍ، وبين الإفراط المتمثّل في إعطاء صلاحية الأمر والنهي والحلّ والعقد لكلّ من هبَّ ودبَّ، ففي كلتا الحالتين فسادٌ عريضٌ، ولا شيءٌ من المصالح مع تطبيق أيٍّ منهما، وصدق من قال عنهما: لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم .. وَلا سَراةَ إذا جُهّالُهُم سادوا الثالثة: من مظاهر سماحة الإسلام جمعُه بين الحضّ على التحلّي بالأخلاق المُعينة على التعايش والتَّآلف، والنهي عن الممارسات التي تسبّب التنافرَ، وتُحدثُ الشروخَ في علاقات الناس، وقد قال العلماء: إن أجمع آية للبر والفضل ومكارم الأخلاق قوله عز وجل «إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بالْعَدْل وَالْإحْسَان وَإيتَاء ذي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَر وَالْبَغْي» فالخصال المأمور بها في صدر الآية عامةٌ شاملةٌ إذا تبادلها الناسُ تعايشوا، وما من خُلقٍ سامٍ يُحبُّ الإنسانُ أن يُعامَل به إلا والآية متناولةٌ له، والخصال المنهيُّ عنها بعد ذلك (الفحشاء، المنكر، البغي) جامعةٌ للسُّوء، منافيةٌ للسماحة، معكّرةٌ للتَّعايش، ويندرج فيها كلُّ إيذاءٍ يخشى الإنسانُ أن يواجهَه في نفسه وماله وعرضه، فبقدر تطبيق الإنسان للآية يتحلّى بالسماحة وسموّ الخلق.