في قصة حقيقية، استيقظت طفلة على مشهد غير مألوف: بيضة موضوعة في طرف غرفتها، حاولت فهم سبب وجودها والبحث عن معنى وراءها، وبعد برهة اكتشف أهلها أن نافذتها كانت مفتوحة، وأن طائراً تسلّل ووضع البيضة ثم رحل. حاول أحدهم مازحاً قائلاً: «أنت أمينة البيضة»، لكنها رفعت رأسها بثقة أكبر وقالت: «لست أمينة.. أنا سفيرة بيضة السلام». حملت البيضة إلى طرف نافذتها من الخارج واعتنت بها، تطعم أمها وتسقيها، ونشأت ألفة بين الطفلة وأمها، حتى فقست البيضة وأصبح منها طائر ثمين بعين الطفلة. ومن فكرة «السفيرة»، التي نعتبرها رمزاً لمن يمنح الأشياء الصغيرة قيمة تتجاوز حجمها ولمن يحوّل لحظة عابرة إلى أثر دائم، نستلهم درساً قيماً ومشهداً يتكرر في كل قطاع وشركة ومؤسسة وحتى بيت، فهناك من يتشبث بدور «الأمين» الذي يحرس الواقع القائم خشية التغيير، ويركّز على تفادي الأخطاء أكثر من سعيه لاقتناص الفرص. وفي المقابل، يبرز من يتبنّى دور «السفير» الذي يرى الإمكانات المخفية في التفاصيل الصغيرة، ويحوّلها إلى فرص واكتشافات جديدة مُدهشة. ويأتي الدليل العلمي ليؤكد هذه الفكرة: فقد أظهرت الباحثة إيمي إدموندسون في جامعة هارفارد (1999) أن الفرق التي تُمنح فرصة للتجربة بلا خوف تتعلم أسرع وتبتكر أكثر. ففي بحثها الذي شمل 51 فريق عمل داخل شركة تصنيع كبرى، وجدت أن الفرق التي يشعر أفرادها بالأمان للتعبير عن أفكارهم، وطرح الأسئلة، والاعتراف بالأخطاء دون خشية من العقاب، كانت الأقدر على تجربة أفكار جديدة، والتعلم من الهفوات، وصنع ابتكارات حقيقية. والأمثلة العملية كثيرة. فإحدى شركات تأجير الفيديو العملاقة تلقّت اقتراحاً من أحد موظفيها لبثّ الأفلام عبر الإنترنت، لكن الإدارة رفضت الفكرة بحجة أن الأسلوب القائم ناجح ولا يستدعي التغيير والمخاطرة. وبعد فترة، تبنّت شركة صغيرة ناشئة الفكرة ذاتها وارتقت بها، فيما تراجعت الشركة الأولى تدريجياً حتى اختفت من السوق وأعلنت إفلاسها. هذا المثال يجسّد عقلية من يتمسّك بالبيضة خوفاً من سقوطها، في مقابل عقلية ترى في البيضة مشروعاً كبيراً ينتظر أن يفقس مشروعاً عملاق. وفي مثال آخر، لاحظ أحد موظفي الصيانة في مستشفى أن عربات نقل المرضى تصدر أصواتاً مزعجة أثناء الحركة. فاقترح إضافة بطانة مطاطية للعجلات لتخفيف الضجيج. بعد تطبيق الفكرة، اختفت الأصوات والصرير، فخفّ التوتر بين المرضى وعمّ الهدوء، وتحسنت راحة المرضى أثناء إقامتهم. القائد الفذ، والمشجّع المبدع، والمربي الفطن، لا يكتفي بحراسة الوضع القائم، بل يحرك السكون ويحفّز الجميع على المبادرات والمشاريع التي تُحدث تغييرات حقيقية. ويمارس خطوات عملية مهما كانت صغيرة: يستقبل الأفكار، يمنح الإذن بالمحاولة، ويركّز على الخطوة التالية والتقدم المستمر وكشف النتائج. وتؤكد البحوث العلمية أن الدماغ يبتكر أفضل في بيئة مُحفزة، حيث لا يخاف الفرد من التجربة ويُشجع على اكتشاف طرائق جديدة. بهذه الطريقة، تتحوّل الأفكار الصغيرة إلى إنجازات عظيمة، والمبادرات البسيطة إلى تغييرات نافعة في الواقع. أمام كل واحد منا «بيضة مجهولة» تنتظر من يمنحها معنى. اقتراح بسيط، فكرة عابرة، لحظة صغيرة، فبعض الناس يتركونها ساكنة وباردة وصامتة، بينما الآخرون يحملونها إلى الضوء، يحوّلونها إلى أثر دائم يُدهش العالم. كل من يصنع أثراً مرّ يوماً ببيضة لم يتجاهلها. السفير الذي بداخلك ينتظر الإذن ليحملها، والقائد الملهم يعرف كيف يمنح الضوء لهذه البيضة الصغيرة لتفقس مستقبلاً مشرقاً أكبر.