يقول الفيزيائيون إنَّ التمددَ الكونيّ قوةٌ دافعة للكون لكنَّه يُواجه مقاومةً من الجاذبية، فإذا انتصرت الجاذبيةُ فإنَّ تمدد الكون سيهدأ تدريجيًا حتى يتوقّف، ثم يبدأ الكونُ بالتقلّص في انكماشٍ عظيم، لكن إن انتصرت سرعة التمدد على الجاذبية فإنَّ الكونَ سيستمر في التمدد إلى ما لا نهاية، وإن انتهت المباراة بينهما بالتعادل فسيتمدّد الكونُ دائمًا لكن بسرعةٍ بطيئة تكاد تكون ثابتة. وبما أنَّ في الفيزياء ما يُسمّى تحليل الطَّيف، كأن يُمرَّر الضَوءُ الأبيض-الذي يحوي في داخله عدة ألوان- عبر قطعةٍ زجاجية شفافة، لتنفصل الألوان عن بعضها وتظهر على هيئةِ طيفٍ لوني، فإنَّ هذه المباراة الكونية تخضع لتحليلٍ طيفي أيضًا ينعكس على التاريخ بألوان وأشكال متعددة، أي أنَّ هذه المباراة كالضوءِ الأبيض خضعت لاختبار القطعةِ الزجاجية التي تكشف ما هو مُخبأ. فمثلًا لما مَرّت جملةُ ديكارت «أنا أفكر إذن أنا موجود» عبر زجاج الحياة بدا أنَّ العالم قد انتقل إلى طورِ تمددٍ معرفي غير مسبوق؛ وكأنه لحظة انفجار كبير للعقل الغربي، نشأت على إثره الفلسفات التي تؤمن بالتمدد وبُنيت الدولة الحديثة وانبثقت المؤسسات، وشُيّد الإيمان بالتقدم كما شُيّد البناء الهندسي لبنة فوق أخرى، وظن الإنسان من فورة السكرة أنه أخيرًا أفلت من الجاذبية القديمة كاللاهوت، والميتافيزيقا، والأسطورة، والجماعة، والصوت الواحد، والمعنى المُنزّل وغيرها، وكأنَّ الإنسان لحظتها كفيزيائي يقول من الطرب: «إنَّ التمدد لا رجعة فيه، فالبشرية دخلت مجرة جديدة». لكن التمدد نفسه حمل في داخله البذور التي ستُشكّك فيه، فانبثاق العقل وتمدد تبعاته كشف عن سلطةٍ كامنة فيه، وكأنَّ اللغةَ التي استخدمها العقلُ لبناءِ نظامه أصبحت مشبوهة، وصار كلُّ شيءٍ في تمدد الكون الحديث قابلا للتفكيك، أي أنه اصطدم بجاذبيةٍ مضادة -ولدت من رحمه- عملت على مستوى هدم المفاهيم التي يُنشئها التمدد، ونسف المسافة بين الذات والعالم. هذه الجاذبية تسأل الكون الحديث: إلى أين أنت ذاهب؟ هل أنت حقًا في طريقك إلى التحرر، أم أنك تبني سجنًا بشفرات حديثة؟ هل الحرية التي تتحدث عنها حرية، أم إعادة إنتاج للسلطة داخل بنية اللغة التوسعية؟ إذا ارتضينا هذا التشبيه بين مباراة الكون ومباراة الفكر الإنساني فإنَّ جاذبية التاريخ الحديث هي تلك اللحظة التي ينكمش فيها المفهوم على نفسه؛ كأن تنهار الحدود بين الأصل والمحاكاة، وبين الذات والسلطة، وبين اللغة وما تشير إليه. ويأتي سؤال المقالة الأهم: هل تجاوز التاريخ الحديث سرعة الإفلات من جاذبية الماضي، أم أن الأسئلة التي طرحتها جاذبية ما بعد التاريخ علمتنا أنَّ التمدد كان محدودًا من الأصل؟ التفاتة: بما أنَّ مصير الكون يتوقّف على لحظةٍ مفصلية بين التمدد والجاذبية، فإنَّ مصير العقل الحديث يتوقف على فهمه للحظة ما بعد العقل: هل هي مجرد ارتداد؟ أم عودة؟ أم بداية جديدة في فيزياء لا نعرف قوانينها بعد؟