في سياق حديث بيني وبين أحد المثقفين العراقيين، قلت إنني اكتشف يوماً بعد آخر دجلاً في بعض الميادين العلمية. فعقب قائلاً: "ان الفن اكثر صدقاً من العلم، لأن رجل العلم يستطيع اخفاء دوافعه الايديولوجية أو العقائدية تحت قناع علمي أو رياضي يبدو "موضوعياً"، أما الفنان فليس هناك ما يدعوه الى اخفاء أفكاره أو انحيازه الايديولوجي". قد يبدو هذا مخالفاً لطبيعة الأشياء، وبالتالي أدعى الى المفارقة. هل يمكن ان يدخل في روع أحد ان يكون رجل العلم أقل موضوعية من الفنان، على ما عُرف عن الفن كتجربة ذاتية بحتة؟ نعم، على ما يبدو، على رغم كل موضوعية العلم! لكن، ألا يبدو ان ثمة مفارقة، حقاً، في هذا القول؟ ربما! ووجه الصعوبة أو الإشكالية، هنا، يكمن في انك تشعر بأن موقفك، عند التعامل مع العلم، يرقى الى مستوى الامتثال والخشوع: إذا قالت حذام فصدقوها/ فنعم القول ما قالت حذام. وهذا ما دأبنا علىه، مذ كنا نتلقى العلوم في المدارس والجامعات. وأعترف بأنني مررت في مرحلة طويلة من الامتثال والخشوع أمام الحقائق العلمية التي كنت أتلقاها وأقرأها، حتى لو كان بعضها يبدو لي متعارضاً مع الفطرة السليمة. وأذكر ان ذهني تبلبل حين فاجأني أحد فصول كتاب Superforce لعالم الفيزياء الاسترالي بول ديفز بالعنوان الآتي: "الفيزياء الحديثة وانهيار الفطرة السليمة"، مؤكداً ان "الفيزياء الحديثة تتحدى كل ما تقوله الفطرة السليمة تقريباً، محيلة الانسان الاعتيادي الى أليس في بلاد العجائب". واكد بول ديفز في أكثر من موضع في كتابه هذا، وفي كتبه الأخرى، اننا نحيا في عالم سريالي فيزيائياً. ولست أدري اذا كانت الغالبية العظمى من العلماء تشاطره رأيه. فأن تتحدى الفيزياء - الحديثة - الفطرة السليمة قد يكون مدعاة للسؤال. اذا علمنا، مثلاً، ان من بديهيات الفطرة السليمة، انك لا تستطيع ان ترسم مثلثاً من اكثر من ثلاثة اضلاع، كما انك لا تتحدث عن بروستات المرأة، ومبيض الرجل، إلا اذا صادف ان غير أي من الجنسين جنسه. نعم، هناك حالات، مثلاً، قد لا تخضع الى القانون التبادلي الرياضي Commutative، أي ان حاصل ضرب ثلاثة في خمسة، مثلاً، قد لا يساوي حاصل ضرب خمسة في ثلاثة في حالات فيزيائية معينة، ربما في ميكانيك الكم، لكن هذا يبقى في اطار فطرتنا السليمة ايضاً. اما ان تمرر نظريات فانتازية، يتعذر اثباتها في المختبر ربما الى الأبد، بحجة اننا ينبغي ان نكيف فطرتنا السليمة، فتلك حكاية قد تثير أسئلة عن صدقية مثل هذه "الحقائق" العلمية. مع ذلك، قد لا يتبادر الى ذهني أي شك في ما يقوله علماء متخصصون، بحكم كوني غير متخصص في هذا الموضوع، على رغم انني أحمل شهادة جامعية - أولية - في الرياضيات. لكنني لا استطيع ان أخدع نفسي وأقول ان كل ما اقرأه من نظريات وآراء في الفيزياء وعلم الفلك لا سيما علم الكونيات Cosmology يبدو لي مقنعاً بما لا يرقى اليه شك. وقد تعززت شكوكي هذه بعدما علمت ان هناك علماء لديهم تحفظات جادة في شأن بعض "الحقائق" العلمية، على رغم انها باتت تعتمد لدى المؤسسة أو المؤسسات العلمية الرسمية على سبيل المثال، نظرية الانفجار الكبير عن أصل الكون. لكن ما يزعزع موقفك ويثبط همتك ان هذه الآراء المعارضة، أو المخالفة تعتبر مروقاً أو انحرافاً عن الخط "القويم"، ويعامل اصحابها كمنشقين عن النهج السائد. وأنا، كمتابع للكتابات العلمية، طبعاً على الصعيد الجماهيري، بت أنظر الى نفسي كنعجة سوداء ايضاً، في اصطفافي مع هؤلاء "المنشقين" من العلماء. لكنني لا أرى موجباً لأن اتزحزح عن موقفي هذا إلا بعد ان تتوافر لدي القناعة التامة بصحة هذه النظريات التي لم يتقبلها ذهني حتى الآن. من بين هذه النظريات العلمية التي لا أزال أجد صعوبة هائلة في تقبلها حكاية نشوء الكون، برمته، بما في ذلك الفضاء والزمن من الصفر: يقال كان هناك قبل زهاء خمسة عشر بليون سنة نقطة بحجم الصفر أو تكاد، من الطاقة، كثافتها مطلقة، ودرجة حرارتها مطلقة، انفجرت من هنا: الانفجار العظيم، وأخذت المادة تتكون بالتدريج من هذه الطاقة، وبدأ الزمن مع هذا الانفجار، ونشأ الفضاء ايضاً. وبعد مرحلة تكونت المجرات والنجوم ومضت في تباعدها أو هروبها بعضها عن بعض حتى يومنا هذا، وهي ماضية في هذا التمدد، إما الى الأبد، أو انها ستصل الى نقطة أو مرحلة تقوى فيها الجاذبية على عامل الإقصاء، فيعود الكون الى الانكماش من جديد، فالانفجار مرة اخرى، وهكذا دواليك. ويصر اصحاب هذه النظرية على ان المجرات ليست هي التي تتحرك في الفضاء، بل ان الفضاء هو الذي يتمدد ويسحب المجرات معه. ويُطلب منك ان تصدق هذا الكلام. وينصحنا العالم روكي كولب ان نكرر العبارة الآتية ثلاث مرات في اليوم، لكي نقتنع بصحتها: "إن تمدد الكون هو تمدد الفضاء، وليس تمدد المجرات في الفضاء". نعم، بالحرف الواحد. واضح ان روكي كولب مدرك صعوبة هضمنا هذه المقولة، وإلا لما نصحنا بأن نرددها ثلاث مرات في اليوم. وأنا اعترف بأنني لم اقتنع حتى الآن بصحتها، على رغم مضي زمن على معرفتي بهذه المقولة، لأنني لا استطيع ان اتصور فضاء ينشأ من عدم ويتمدد في ماذا؟ وحتى لو تساهلنا وآمنا بعدم وجود زمن سابق للزمن، أو بانبثاق زمن من لا زمن كما يزعم الناطقون بهذه النظرية، بيد اننا لا نستطيع ان نتصور انبثاق فضاء من لا فضاء وتمدده، في اللافضاء. "هل هناك حالة ما فوق أو ما تحت الفضائية، فانتازية، أو سريالية أو ميتافيزيقية، تتأبى على مدارك فطرتنا السليمة؟". هذه هي احدى بدلات الامبراطور التي لا يستطيع "متخلفون"، من أمثال كاتب هذه السطور هضمها أو بلعها. وليس صحيحاً، كما تقول النظرية، وصف تمدد الكون كفقاعة تتضخم منظورة من خارج. فبمقتضى التعريف، لا شيء كان في الخارج. بل من الأصح ان نفكر فيه من الداخل، ربما مثل خطوط المصبّعة Grid Lines، حين تتمدد بصورة منتظمة الى الاتجاهات كافة. تجدر الإشارة الى ان نظرية الانفجار الكبير هذه تعرضت الى تحديات وطعون بأقلام عدد من العلماء، إلا ان المؤمنين بها وهم يشكلون الآن نسبة كبيرة، بحكم كون النظرية تعتمدها المؤسسات العلمية صاحبة القرار، لم يفكروا في اعادة النظر فيها، وربما التخلي عنها، بل حاولوا ايجاد تفسير وردّ لكل اعتراض. وقد يبدو بعض هذه الردود مستنداً الى ما يمكن ان يعتبر أدلة مختبرية، لكن بعضها الآخر في باب الفانتازيا المدعمة بمقولات فيزيائية. وليس هنا مجال الدخول في هذه التفاصيل. لكننا نتفق مع الذين يذهبون الى ان نظرية الانفجار الكبير لقيت قبولاً واستحساناً لدى اصحاب القرار في المؤسسات العلمية، لانها تلتقي مع نظرية خلق الشيء من لا شيء. وهذا، كما يتراءى لنا، شيء مضلل جملة وتفصيلاً، ولا ينسجم حتى مع المقولات الدينية، التي يفترض انها ترحب بمثل هذه النظريات. فنظرية "الانفجار الكبير" تقول بنشوء الكون قبل زهاء 15 بليون سنة، وانه كان في لحظة نشوئه "جحيماً" بكل معنى الكلمة، وليس جنة، كما تؤكد الاديان السماوية الثلاثة. وبهذا الصدد، قال العالم السوفياتي الراحل زيلدوفيتش: "توعد الكنيسة الخاطئ بالجحيم في المستقبل، بيد ان علم الكونيات يذهب الى ان سعير الجحيم كان شيئاً في الماضي". والغريب ان الكتب التي تبحث في علم الفلك والكونيات تؤكد، كلها، ان العالم الفلكي الاميركي ادوين هبل 1889 - 1953 استنتج في 1929 ظاهرة تمدد الكون من انزياح طيف المجرات نحو اللون الاحمر: عندما يبتعد عنا جرم مضيء، فان التلسكوب الذي يرصده يرينا طيفه منزاحاً باتجاه اللون الاحمر، وعندما يقترب منا هذا الجرم فان التلسكوب الذي يرصده يرينا طيفه منزاحاً باتجاه اللون الازرق. وبحكم المصادفة فقط عثرت على رأي يخالف ما جاء في هذه الكتب كلها، في مقال نشر في الملحق الادبي لجريدة ال"تايمز" اللندنية في تاريخ 13 تموز يوليو 2001، بقلم العالم البريطاني البارز برنارد لوفيل. جاء في هذا المقال:" "يصعب اليوم الاعتقاد بان هبل كان حذراً في شأن المعاني التي تكمن خلف قياساته. ان العلاقة بين سرعة التراجع تراجع المجرات ومسافة المجرات تعرف الآن بثابت هبل. ولأن قيمة هذا الثابت لها علاقة بعمر الكون فان قيمته الدقيقة ظلت موضوع جدل لم ينته ولا يزال يعتبر موضوعاً مهماً في الابحاث والنقاشات. ويؤثر ان هبل رفض اعتبار قياساته الطيفية لانزياح خطوط الطيف نحو الاحمر للمجرات البعيدة دليلاً على تراجع المجرات، اي على تمدد الكون...". ويؤكد برنارد لوفيل ان هبل بقي شاكاً في ان لقياساته علاقة تنطوي على اهمية بأي نظرية كوزمولوجية عن اصل الكون. وقد عاش طويلاً واستعمل تلسكوب بالومار ذا المئتي بوصة انش. وبذلك اتسعت قياساته لتشمل انزياحات اكبر نحو الاحمر، بيد انه كتب في دفتره: "ليس هناك دليل على تمدد او عدم تمدد الكون". ورغبة هبل في تجنب مناقشة مضامين ابحاثه الكوزمولوجية تعود الى انه يعتقد انها قد تؤول الى "ورطة ينبغي تجنبها بأي ثمن". وهذا التأني في اطلاق الاحكام يؤكد ان هبل عالم يحترم نفسه وعلمه كثيراً، وانه لا يريد زج نفسه في قائمة علماء الكونيات المتسرعين في اطلاق الاحكام، التي يمكن ان تضلل البشر. فالقول بتمدد الكون، استناداً الى ظاهرة قد لا تكون لها علاقة بذلك، قد تترتب عليها اراء واستنتاجات وتنظيرات قد تكون مجانبة للصواب، لكنها يمكن ان تخدم غرضاً معيناً: خلق الشيء من لا شيء... وربما كان هبل يريد تفادي مثل هذه الاحكام والاستنتاجات. لكن علماء الكونيات او معظمهم نسوا او ربما تناسوا حذر هبل في شأن الاهمية الكوزمولوجية لقياساته. فقد تكرس الاعتقاد بتمدد الكون، ونسوا حتى ملاحظة العالم الفيزيائي البريطاني بول ديراك، احد اعظم علماء القرن العشرين النظريين، التي وردت في رسالة علمية نشرت قبيل الحرب العالمية الثانية، القائلة انه حتى بعض التغيرات الطفيفة في الزمن الماضي يمكن ان يقدم تفسيراً مختلفاً للانزياحات نحو الاحمر، وانه لا يدل ضمناً على تمدد الكون. وكما اكدنا في مستهل هذه الكلمة، نحن لسنا المؤهلين بأي شكل من الاشكال لمناقشة هذا الموضوع الذي يتطلب اختصاصاً والماماً به لا يتسنيان الا للعلماء، لكننا لا نعتقد ان هذا يمنعنا من ان نسأل على غرار ما يذهب اليه البعض: اذا كان القمر يدور حول الارض، والارض والقمر والكواكب الاخرى تدور حول الشمس، والشمس وتوابعها تدور حول مركز في مجرة التبانة، ومجرة التبانة تدور مع زهاء عشرين مجرة اخرى في ما يعرف بمجموعتنا المحلية. وهذه ينبغي ان تدور حول مجموعة اكبر منها، وهكذا الى ما لا نهاية... ألا يدعو هذا الى الاعتقاد بان كل شيء في الكون يدور حول قوة اكبر. وبالتالي ان كل شيء يتحرك في اتجاهات شتى؟ وقد يعني هذا ان "الانزياح" نحو الاحمر لا يعني تراجعاً او تمدداً، بل قد يكون له معنى آخر؟ فلماذا الاصرار على نظرية الانفجار الكبير؟ يتخذ البابا الحالي يوحنا بولس الثاني، موقفاً حذراً جداً من الخلط بين العلم والدين. وفي احاديثه بهذا الصدد، اعتذر مراراً بالنيابة عن الكنيسة عن اضطهاد غاليليو وأكد على استقلالية كل من الدين والعلم. وفي خطابه أمام أكاديمية العلوم البابوية في 1981 استشهد بغاليليو الذي قال ان الكتاب المقدس "لا يهمه أن يعلمنا كيف صُنعت السماء بل كيف يذهب المرء الى السماء". وبالتالي يؤكد البابا أن الدين لا يناقش هذه أو تلك من النظريات الكونية. وفي 1988 حذّر أمام الأكاديمية نفسها من "اللجوء الى الأساليب المتسرعة والتي تتعارض مع قواعد النقد النزيه، ولغرض الدفاع عن العقائد المسيحية، لتبرير نظريات حديثة كنظرية الانفجار الكبير في علم الكونيات". فلماذا يحاول بعض العلماء أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك؟ هل البابا الحالي، يوحنا بولس الثاني، أكثر تنوراً وتقدمية من الكثير من العلماء؟ * كاتب عراقي مقيم في لندن.