سأبدأ من الحقيقة التي نعرفها جميعاً ونتجنب قولها: العلاقات الاجتماعية في السعودية لم تعد مساحة دفء كما كانت؛ أصبحت عبئاً نفسياً يثقل اليوم كله من أجل ساعة زيارة، أو مكالمة مجاملة، أو مشاركة حضور لا نرغب فيه. تحول القرب إلى رصيد اجتماعي، والاهتمام إلى واجب، والزيارات إلى اختبار نوايا يتكرر بلا توقف. نحن مجتمع يعتز بروابطه، نعم. لكننا أيضاً مجتمع يتوقع من الفرد أن يكون متاحاً دائماً، مبتسماً دائماً، مجاملاً دائماً... حتى على حساب راحته وحاجته للهدوء ووقته. كأن الانسحاب جريمة، وكأن الاعتذار تقصير، وكأن الصمت موقف عدائي لا بد من تفسيره في أسرع وقت. لم يعد الغياب يُفهم كمساحة شخصية، بل «قصة» تُروى، وعدم الرد يتحول إلى «إشارة»، والتأخر في الحضور يُقرأ ك«برود» أو «تغير» أو «تجاوز». كل هذه الكلمات التي تتناثر في المجالس وفي مجموعات العائلة... تخلق عبئاً نفسياً ثقيلاً لا يظهر في الكلام، بل في نبضات القلب، وفي التوتر الذي يسبق المناسبات، وفي الشعور العميق بأنك دائماً تحت المجهر. والسؤال المهم: كيف وصلنا إلى هنا؟ الإجابة مختصرة... لكنها موجعة: نحن الذين أوجدنا هذا الثقل، ثم صدقنا أنه جزء من هويتنا. كررنا «لا يزعل أحد»، و«لا يقولون»، و«عيب»، حتى أصبحت هذه الكلمات أبواباً تُغلق علينا، لا قواعد لبناء الاحترام والود. أصبح الخوف هو الذي يُدير العلاقات... لا المبادرات والرغبة. والأخطر من ذلك أن هذه العلاقات- بحكم العادة- لا تعطي فرصة للصدق. لا أحد يمكنه أن يقول: «لا أستطيع الحضور لأنني مرهق». أو «أحتاج مساحة لنفسي». أو «لا أريد المجاملة اليوم». لأن هذه العبارات البسيطة تتحول بسرعة إلى تفسيرات قاسية: تغير، تكبر، قطيعة، أو جفاء. بينما الحقيقة أبسط بكثير: هناك أشخاص يحتاجون إلى الهدوء أكثر من الاختلاط. وأشخاص يحبون بصمت، ويتواصلون بهدوء، ولا يملكون القدرة على حضور المناسبات كل أسبوع. نحن الآن في زمن تتغير فيه كل الأشياء من حولنا بسرعة، إلا تعلقنا بالمجاملة الثقيلة. لا زلنا نخاف من كلمة «يزعل» أكثر من خوفنا على صحتنا النفسية، نهتم بانطباعات الآخرين أكثر من اهتمامنا براحتنا. لا زلنا نضع «لا يكسر بخاطر أحد» قبل «لا أكسر نفسي». هذا الخلل - بهذا الشكل - لا يمكن أن يستمر دون ثمن، يدفعه الفرد وحده. العلاقات الاجتماعية التي تفترض أنك متاح دائماً، ومتفاعل دائماً، ومهتم دائماً، علاقات لا تعترف بإنسانيتك، بل بقدرتك على التحمل فقط، وهو ما لا يدوم مهما اتسعت مساحته وطالت مسافاته. أخيراً... العلاقات التي تُرهقك أكثر مما تُطمئنك، اتركها، تسقط وحدها.