في كتابه «تهافت الفلاسفة» كان الغزالي يناقش قضية جوهرية وعقيدة دينية رئيسة عند الفلاسفة وهي «أزلية العالم» التي حظيت باهتمام كبير لدى الفقهاء العرب. هذه العقيدة التي يتمحور حولها كتاب «تهافت الفلاسفة» تتصادم من حيث المبدأ مع عقائد الشرائع السماوية. تؤكد الأديان السماوية أن الله خلق العالم بإرادته وأن العالم لم يكن موجودا ثم أوجده من العدم، بينما يقول الفلاسفة بأزلية العالم وأنه موجود مع الله منذ الأزل ولا بداية له. يتعارض القول بأزلية العالم مع نصوص الخلق من العدم وينفي أن الله خلق العالم بعد العدم. ومن هنا نشب الخلاف العقدي الكبير داخل الثقافة الإسلامية بين الاعتقاد بقدم العالم وحدوثه، أي بين الاعتقاد بأن العالم أزلي والاعتقاد بأنه مخلوق من العدم. دعونا نتوقف قليلا عند عقيدة أزلية العالم وكيف أصبحت نتيجة للاعتقاد بوحدة الوجود، فكلا العقيدتين -أزلية العالم ووحدة الوجود- يلغي فكرة الخلق من العدم، فالعالم ليست له بداية زمنية ووجوده قديم مع الله أو صادر عن الله صدورا أزليا، وحسب عقيدة وحدة الوجود فإن الكائنات الحية ليست مخلوقات خارجية مستقلة بل تجليات أو مظاهر للوجود الإلهي نفسه، الوجود واحد وأزلي وليست له بداية لكنه يتجلى في صور لا نهائية دائمة التغير. من خلال هذه الفكرة يمكن التنقيب عن الأصل الثقافي لما يعرف ب(تحور الفيروسات) أو تطور الكائنات الحية إجمالا، والقول بتحور الفيروسات يمثل جزءا من نظرية داروين للنشوء والتحور أو نتيجة لها، فلا شك أن تحور الفيروسات يحقق مبادئ التطور الدارويني كاملة: الحركة والانتخاب الطبيعي والتحولات البيولوجية تجري نتيجة عمليات كيميائية- بيولوجية في كون بلا بداية. فالتطور يعمل عبر زمن طويل للغاية ويعتمد على قوانين ثابتة للطبيعة، ويفسر كذلك ظاهرة تنوع الكائنات دون الحاجة لخلق مباشر لكل نوع. أزلية العالم ووحدة الوجود ونظرية التطور يمكن دمجها في إطار موحد يرى الكون أزلي الوجود ثابت القوانين متغير الصور، أي إذا كان العالم أزليا فإن الحياة لم تخلق من العدم بل ظهرت عبر عمليات طبيعية ممتدة منذ الأزل، والتطور آلية داخلية في العالم الأزلي لتبدل صور الكائنات. ظهور الفيروسات واشتداد قوتها وبعد ذلك تحورها وضعفها ثم اختفاؤها ما هو إلا استمرار لحركة التغير الأزلي في الطبيعة في عالم أزلي تتحرك فيه صور الوجود بلا بداية، فالكائنات تظهر وتختفي عبر سلسلة لا نهائية من التحولات، فالمادة أزلية والقوانين الطبيعية أزلية والحياة نتيجة تفاعلات كيميائية ممتدة عبر الأزمنة، وبطبيعة الحال الفيروسات جزء من نظام بيولوجي يخضع للقوانين نفسها منذ الأزل، فالتطور مجرد آلية بيولوجية ضمن عالم أزلي ليس له بداية لكنه في صيرورة دائمة تتطور فيه الكائنات الحية عبر الطفرات الجينية والانتخاب الطبيعي، وتحور الفيروسات مثال حي وسريع على آلية التطور وصورة مصغرة لنمط التغير الكوني الأزلي. هنا نجد كيف يمكن لموروث ديني أن يتداخل مع العلم وكأنه جزء منه، فالعلم يمكن أن يتورط في الأيديولوجيا الثقافية والتحيزات الدينية ويستغل كأداة ثقافية بقصد أو دون قصد، فلا يوجد علم محايد بالكامل. وكما ذكرنا في مقالات سابقة أن وحدة الوجود فكرة مؤثرة في الثقافة الغربية، ولذلك نرى أثرها في تعزيز نظرية داروين على المستوى العلمي، فعقيدة وحدة الوجود تصور الوجود بأنه في تجلٍ دائم لا تكرار فيه والحياة تتجلى بصور لا نهائية ومن الناحية البيولوجية يكون ذلك عبر الطفرات والانتخاب، وهذا لا يتعارض مع القاعدة الرئيسة في عقيدة وحدة الوجود القائلة إن العالم تجلٍ للوجود الإلهي، فالمادة في أصلها واحدة والتطور قوة روحية دافعة أو صعود ذاتي نحو الكمال، وهذه الفكرة شائعة لدى المفكرين الغربيين، ولعل أشهرهم فرانسيس فوكوياما وأفكاره المثيرة للجدل حول «نهاية التاريخ والإنسان الأخير». بالتالي يمكن دمج أزلية العالم ووحدة الوجود ونظرية التطور في إطار موحد وهو أن الحياة ليست مخلوقة فجأة بل نتيجة عمليات طويلة جدا ولا نهائية من ضمن مادة أزلية تتحول باستمرار. وهنا يكمن الخلط الكبير بين العلم باعتباره منهجا يعتمد الملاحظة والتجريب، وبين الموروث الديني والثقافي المشبع بالأسطورة والذي يوجه فهم العلماء لفهم المعطيات من حيث لا يشعرون أو صياغة النظريات ضمن خلفيات ثقافية غير مثبتة علميا ولا تدخل في مجال العلم الطبيعي.