نعيش اليوم في عالم صار التواصل فيه أسهل من أي وقت مضى، لكن المفارقة المؤلمة أنّ القرب الرقمي لم ينجح في سدّ فجوة البعد الإنساني. كل يوم نمرّ على عشرات المحادثات والإشعارات والمنشورات، نقرأ، نعلّق، نبتسم، ثم نغلق الشاشة ونعود إلى فراغ لا يملؤه شيء. العزلة الرقمية ليست انعزالًا عن الناس فحسب، بل انفصال عن الذات أيضاً، حين انشغلنا بتوثيق اللحظة بدلاً من عيشها، وعندما باتت الردود أهم من الحوار، والظهور أهم من الحضور، لقد خسرنا مهارة الجلوس دون مشتت، ومهارة الإصغاء دون النظر إلى شاشة الهاتف المحمول. وما هو أخطر من ذلك أن العزلة الرقمية تتسلل إلينا بهدوء، دون إعلان، نظن أننا متصلون بالعالم، بينما نحن في الحقيقة نتراجع خطوة بعد خطوة نحو مساحة ضيقة لا يسكنها أحد سوانا، نجتمع في غرف مليئة بالناس، لكن العيون معلّقة بالهواتف، تتشابك الأصابع مع الهواتف أكثر من تلاقي العيون، وكأن صمت الشاشات أصبح مرآة لمشاعرنا المفقودة. أما الأطفال والمراهقون يعيشون عزلة مضاعفة، يكبرون على إيقاع منصاتٍ تصنع مقارنات لا تنتهي، وصورًا مصقولة تُشعرهم بأن حياتهم أقل اكتمالاً، تتشكل شخصياتهم في عالمٍ لا يمنحهم فرصة الخطأ، ولا يسمح لهم بالتعرّف على أنفسهم بعيدًا عن ضغط المقاييس الرقمية، وهذا ما يهدد القيم التي تربّينا عليها من البساطة، واللقاء الحميمي، والسؤال الصادق، والقدوة التي تُرى بالفعل لا بالصورة. ولعلّ أصعب ما في العزلة الرقمية أنّها عزلة نختارها دون وعي، نفتح لها الباب كلما فتحنا شاشات هواتفنا، ونسمح لها بالاقتراب كلما انسحبنا من محادثة حقيقية إلى محادثة افتراضية، علينا أن نتذكر بأن الحياة الحقيقية هو ما يحدث بين الناس، في تفاصيل صغيرة لا تُوثَّق، وفي حوارات لا تحتاج إلى شاشات، إنها دعوة لأن نرى العالم بعيوننا لا بعدسات هواتفنا، وأن نعود إلى أنفسنا قبل أن نفقدها في زحمة التواصل الرقمي.