ليست الخيانة دائمًا طعنة مفاجئة من غريب، ولا الظلم فعلًا استثنائيًا يصدر عن نفوس شريرة خالصة، في كثير من الأحيان الظلم ممارسة يومية هادئة يرتكبها الإنسان حين تتبدل موازين القوة لديه، حين يشعر أن وجود الآخر لم يعد ضرورة، بل عبئًا أو شاهدًا على ماض لا يريد أن يتذكره يقول سليمة بن مالك: "أُعلّمهُ الرِّماية كل يوم فلمَّا أشتدَّ ساعِدهُ رَماني"، وهي جملة تختصر مأساة إنسانية متكررة، لحظة انتقال من الاحتياج إلي الاستغناء، ومن الضعف إلي القوة، ومن الامتنان إلي الإنكار، في هذه اللحظة بالذات يتعري جوهر النفس البشرية فبعض البشر حين يشتد ساعدهم، يلتفتون للخلف اعترافًا بالفضل، وبعضهم يختار أن يمحو الطريق كله، وكأن من سانده لم يكن سوي مرحلة مؤقتة في صعوده. نكران الجميل ليس مجرد تجاهل، بل هو فعل عدواني في جوهره، ومحاولة لإعادة كتابة التاريخ بطريقة تبرئ الذات من أي دين أخلاقي؛ فالاعتراف بالفضل يفرض تواضعًا، والتواضع يذكر الإنسان بأنه لم يكن مكتفيًا بذاته يومًا، لذلك يلجأ البعض إلي الافتراء. لا يكتفون بالإنكار بل يشوهون صورة من أحسن إليهم، وكأن تشويه الآخر يمنحهم شرعية أخلاقية زائفة لما ارتكبوه، الظلم هنا لا ينبع من القوة وحدها، بل من الخوف؛ خوف من الشعور بالديون، من الإحساس بأن النجاح لم يكن نقيًا بالكامل، من مواجهة الذات بحقيقتها العارية، فالإنسان حين يخاف يظلم، وحين يشعر أن ميزان القوة أصبح في صفه يظن أن العدالة رفاهية لا يحتاجها، المؤلم أن الظلم غالبًا ما يمارس باسم العقل، وبحجج منطقية باردة مثل أن الظروف تغيرت، أو انتهت المرحلة، لكن الحقيقة أن لكل إنسان مصلحته، فما لا يقال هو أن القلب حين يفرغ من الامتنان، يتحول إلي مساحة مظلمة صالحة لكل أنواع القسوة، فيها لا يصبح الظلم استثناءً، بل خيارًا مريح، والأشد قسوة أن من يرمي بعد أن اشتد ساعد غيره، لا يؤذى فقط بالفعل، بل بالمعني، يؤذى لأن الحقيقة التي آمن بها عن العلاقات، وعن نفسه، وعن الإنسان عمومًا، تنهار دفعة واحدة، كأن العالم يهمس له ما قدمته لم يكن ضمانة، ولا الأخلاق عقدًا ملزمًا، وربما هنا يكمن الدرس الأكثر إيلامًا، أن الطبيعة البشرية قادرة علي السمو، وقادرة بالقدر ذاته علي الانحدار، وأن العدل ليس صفة ملازمة للقوة، بل امتحانها الحقيقي. فليس السؤال ماذا يفعل الإنسان حين يكون ضعيفًا، بل ماذا يفعل حين يشتد ساعده… ومن يختار أن يرميه خلفه.